أو أنه أراد: لا يعمل بمقتضى الغضب إذا حصل، بل يجاهد نفسه على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به؛ فإنه إذا ملك الإنسان. . كان في أسره وتحت أمره، ومن ثَمَّ قال تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} فمن لم يمتثل ما يأمره به غضبه وجاهد نفسه على ذلك. . اندفع عنه شر غضبه، وربما سكن وذهب عاجلًا، فكأنه لم يغضب، وإلى هذا الإشارةُ بقوله تعالى:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} الآيةَ.
وأخرج الشيخان:"ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(١)، ومسلم:"ما تعدون الصُّرَعة فيكم؟ " قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال:"ليس ذاك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"(٢).
(فردَّد) السائل عليه (مرارًا) يقول: أوصني يا رسول اللَّه؛ وكأنه لم يقنع بقوله:"لا تغضب" فطلب وصيةً أبلغ منها وأنفع، فلم يزده صلى اللَّه عليه وسلم عليها، وأعادها له حيث (قال) له ثانيًا وثالثًا: (لا تغضب) تنبيهًا له بتكرارها على عظيم نفعها وعمومه، فهو كما قال له العباس رضي اللَّه تعالى عنه: علِّمني دعاءً أدعو به يا رسول اللَّه، فقال:"سل اللَّه العافية" فعاوده مرارًا، فقال له:"يا عباس، يا عم رسول اللَّه؛ سل العافية في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أُعطيت العافية. . أُعطيت كل خير"(٣).
قيل: يحتمل أنه صلى اللَّه عليه وسلم علم من هذا الرجل كثرة الغضب فخصَّه بهذه الوصية، وفي بعض طرق الحديث: ما يبعدني من غضب اللَّه؟ قال: "لا
(١) صحيح البخاري (٦١١٤)، وصحيح مسلم (٢٦٠٩) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وقوله: (ليس الشديد بالصُّرَعة) بضم الصاد المهملة وفتح الراء: الذي يصرع الناس كثيرًا بقوَّته -كما في الحديث الثاني- والهاء للمبالغة في الصفة؛ والصُّرْعة -بضم الصاد المهملة وسكون الراء- بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرًا. اهـ "مدابغي" (٢) صحيح مسلم (٢٦٠٨) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (٣) أخرج نحوه الترمذي (٣٥١٤)، والإمام أحمد (١/ ٢٠٩) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وليس عندهما هنا قوله: "فإنك إذا أعطيت العافية. . . "، وهي عند الترمذي (٣٥١٢) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: أي الدعاء أفضل. . . إلخ.