والحديث الثالث: ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد عن أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه)(١) .
وفي هذا دليل لما ذهب إليه الجمهور في أن ذلك إنما يكون في السفر، فإن مفهوم هذا الحديث أنه إن لم يكن في سفر فإنه لا يفعل ذلك – وهذا هو الأصل فإن الأصل في الصلاة أن تصلى إلى القبلة وأن يركع ويسجد وأن يفعل فيها ما يفعله المفترض إلا أن يدل دليل على ذلك، فقيد أنس هذا الفعل بأنه في السفر فيحمل عليه حديث عامر بن ربيعة فيقيد به إطلاق حديثه.
وإنما نرجح مذهب مالك؛ لأن ظاهر لفظة السفر في الشريعة السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فإن الشارع شرع القصر في السفر، وهنا قد أتى لفظ السفر، فالأصل أن يكون هو السفر الذي رخص فيه بالقصر وغيره من الأحكام المختصة بالسفر، فيحمل لفظ السفر في حديث ابن عمر وأنس على السفر الذي يشرع فيه القصر.
وتقسيم السفر إلى طويل وقصير لا دليل عليه شرعي، وإطلاقات الشريعة ظاهرها أن السفر واحد وأن السفر الذي شرع فيه القصر هو السفر الذي شرعت فيه الصلاة على الراحلة تطوعاً حيث توجهت الراحلة.
إذن أرجح هذه المذاهب هو مذهب المالكية من أن هذا مشروع في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وأما ما يسميه الفقهاء من السفر القصير فلا تشرع فيه، ومثله الحضر فكذلك لا تشرع فيه.
(١) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (٢٧٧) التطوع على الراحلة والوتر (١٢٢٥) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا رِبْعي بن عبد الله بن الجارود، حدثني عمرو بن أبي الحجاج، حدثني الجارود بن أبي سَبْرة، حدثني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجّهه ركابه " قال المنذري: إسناده حسن ". سنن أبي داود مع المعالم [٢ / ٢١] .