فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا تيَقَّنْ قُرْبَ عِيسَى بْنِ مُوسَى مِنْهُ، حَفَرَ خَنْدَقَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَحَفَرَ فِيهِ بِيَدِهِ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ عُثْمَانَ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ: اجْتَمَعَ مَعَ مُحَمَّدٍ جَمْعٌ لَمْ أَرَ أَكْثَرَ مِنْهُ، إِنِّي لأَحْسَبُنَا قَدْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ، فَلَمَّا دنا منا عِيسَى خَطَبَنَا مُحَمَّدٌ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ قَرُبَ مِنْكُمْ فِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ، وَقَدْ حَلَلْتُكُمْ مِنْ بَيْعَتِي، فَمَنْ أَحَبَّ فَلْيَنْصَرِفْ، قَالَ: فَتَسَلَّلُوا حَتَّى بَقِيَ فِي شِرْذِمَةٍ١. وَخَرَجَ النَّاسُ من المدينة بأولادهم إلى الأَعْوَصِ وَالْجِبَالِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ عِيسَى، بَلْ جَهَّزَ خَمْسَمِائَةٍ إِلَى ذِي الْحَلِيفَةِ يُمْسِكُونَ طَرِيقَ مَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ، ثُمَّ رَاسَلَهُ يَدْعُوهُ إِلَى الطَّاعَةِ وَأَنَّ الْمَنْصُورَ قَدْ أَمَّنَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: إِيَّاكَ أَنْ يَقْتُلَكَ مَنْ يَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ فَتَكُونَ شَرَّ قَتِيلٍ، أَوْ تَقْتُلُهُ فَيَكُونَ أَعْظَمَ لِوِزْرِكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عِيسَى: لَيْسَ بَيْنَنَا إِلا الْقِتَالُ، فَإِنْ أَبَيْتَ إِلا الْقِتَالَ نُقَاتِلُكَ عَلَى ما قاتل عليه خير آبائك، علي طلحة وَالزُّبَيْرُ عَلَى نَكْثِ بَيْعَتِهِمْ لَهُ٢.
وَعَنْ "مَاهَانَ" مولى قحطبة قال: لما سرنا إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَانَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُصْعَبٍ طَلِيعَةً فَطَافَ بِعَسْكَرِنَا حَتَّى حَزَّرَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ عَنَّا فَرُعْبِنَا مِنْهُ، حَتَّى جَعَلَ عِيسَى وَحُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ يَقُولانِ: فَارِسٌ وَاحِدٌ يَكُونُ طَلِيعَةً لِأَصْحَابِهِ! فَلَمَّا كَانَ عَنَّا مَدَّ الْبَصَرَ نَظَرْنَا إِلَيْهِ مُقِيمًا لا يَزُولُ، فَقَالَ حُمَيْدٌ: وَيْحَكُمُ انْظُرُوا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ فَارِسَيْنِ، فَوَجَدَا دَابَّتَهُ عَثُرَتْ بِهِ فَتَقَوَّسَ الْجَوْشَنُ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ، فأخذ اسلبه وَرَجَعَا بِتَنُّورٍ مُذَهَّبٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ. قِيلَ كَانَ لِمُصْعَبٍ جَدَّهُ أَمِيرُ الْعِرَاقِ. ثُمَّ إِنَّ عِيسَى أَحَاطَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَثْنَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ دَعَا مُحَمَّدٌ إِلَى الطَّاعَةِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَاقَ بِنَفْسِهِ فِي خَمْسِمِائَةٍ فَوَقَفَ بِقُرْبِ السُّورِ فَنَادَى: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ دِمَاءَ بَعْضِنَا عَلَى بَعْضٍ، فَهَلُمُّوا إِلَى الأَمَانِ، فَمَنْ جَاءَ إِلَيْنَا فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ أَوِ الْمَسْجِدَ أَوْ أَلْقَى سِلاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ صَاحِبِنَا فَإِمَّا لَنَا وَإِمَّا لَهُ، قَالَ فَشَتَمُوهُ، فَانْصَرَفَ يَوْمَئِذٍ فَفَعَلَ مِنَ الْغَدِ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَبَّأَ جَيْشَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَزَحَفَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمَّا الْتَحَمَ الْحَرْبُ نَادَى: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أَنْ لا أُقَاتِلَ حَتَّى أَعْرِضَ عَلَيْكَ الأَمَانَ، فَلَكَ الأَمَانُ عَلَى نَفْسِكَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ، وَتُعْطَى مِنَ الْمَالِ كَذَا وَكَذَا، فَصَاحَ: أَلْهُ عَنْ هَذَا، فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لا يُثْنِينِي عَنْكُمْ فزع،
١ انظر المصدر السابق في السير للمصنف.٢ راجع تاريخ الطبري "٧/ ٥٨٥"، وسير أعلام النبلاء "٦/ ٤١٢".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute