وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ رُخْصَةٌ فِي إِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: أَمَّا تَنَاشُدُ الْأَشْعَارِ فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ مَانِعٍ مُطْلَقًا، وَمِنْ مُجِيزٍ مُطْلَقًا، وَالْأَوْلَى التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الشِّعْرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الذَّبَّ عَنْهُمَا كَمَا كَانَ شِعْرُ حَسَّانَ، أَوْ يَتَضَمَّنُ الْحَضَّ عَلَى الْخَيْرِ وَالْوَعْظَ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلَ مِنْهَا، فَهُوَ حَسَنٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ:
طَوِّفِي يَا نَفْسُ كَيْ أَقْصِدَ فَرْدًا صَمَدًا ... وَذَرِينِي لَسْتُ أَبْغِي غَيْرَ رَبِّي أَحَدَا
فَهُوَ أُنْسِي وَجَلِيسِي وَدَعِي النَّاسَ ... فَمَا إِنْ تَجِدِي مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَا «١»
وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الشِّعْرَ فِي الْغَالِبِ لَا يَخْلُو عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ وَالتَّزَيُّنِ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ اللَّغْوُ وَالْهَذَرُ، وَالْمَسَاجِدُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ". وَقَدْ يَجُوزُ إِنْشَادُهُ فِي المسجد، كقول القائل:
كفحل العداب «٢» القرد يضربه النَّدَى ... تَعَلَّى النَّدَى فِي مَتْنِهِ وَتَحَدَّرَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
إِذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
فَهَذَا النَّوْعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَمْدٌ وَلَا ثَنَاءٌ يَجُوزُ، لِأَنَّهُ خَالٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْأَشْعَارِ الْجَائِزَةِ وَغَيْرِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي" الشُّعَرَاءِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ذُكِرَ الشُّعَرَاءُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (هُوَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ). وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَهُ فِي السُّنَنِ. قُلْتُ: وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَأْثُرُونَ هَذَا الْكَلَامَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى الْأَحَادِيثِ فِي ذلك. والله أعلم.
(١). من مجزوه الرمل وإنشاده:"طوفي يا نفس كي أف ... - صد فردا صمدا.(٢). العداب (بالفتح والدال المهملة): ما استرق من الرمل. وقيل: جانبه الذي يرق ويلي الجدد من الأرض. الواحد والجمع سواه؟.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute