لقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم من أن تمتد إليه يد التحريف بزيادة أو نقصان، وتولّى سبحانه حفظه، ولم يكل ذلك إلى أحد سواه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)} [الحجر:٩].
ولما كان هذا القرآن الكريم يشتمل على أحكام وفرائض وحدود وأوامر ونواه مجملة ومطلقة وعامة ومبهمة فقد أوجب الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - تبيينها وتوضيحها للناس؛ حتى لا يلتبس عليهم دينهم وكتاب ربهم، فقام - صلى الله عليه وسلم - بذلك أحسن قيام، وذلك فيما يعرف بين المسلمين بـ"السنة".
وعلى هذا الاعتبار فلم يكن من المجازفة القول: إن من تمام حفظ القرآن حفظ السنة كذلك؛ لأنه لا يعبد الله حق عبادته بدونها، ولا يعبد كما شرع - جل وعلا -. ولأجل هذا فقط حفظ الله تعالى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الجملة، وذلك من خلال تسخيره لها رجالًا يحفظونها في صدورهم وكتبهم، وينفون عنها تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.
[طُرق حفظ السنة النبوية]
يمكن أن تُجمل العوامل التي حُفظت بها السنة في الآتي:
[أولاً: الكتابة]
وتعني: كتابة الحديث وجمعه لا على سبيل الاستقصاء والتبويب.
وقد ابتدأت كتابة السنة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (١)، وأشهر من كان يكتب الحديث في هذا العهد: عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، ويدل لذلك:
١ - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال:(كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: اكْتُبْ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ)(٢).
٢ - عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي - رضي الله عنه - قال:«مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ»(٣).
(١) وقد أحصى الدكتور محمد مصطفى الأعظمي الصحابة الذين كتبوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث فبلغوا اثنين وخمسين صحابيًا - رضي الله عنهم -. انظر: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور/ محمد مصطفى الأعظمي (٢/ ٩٢ - ١٤٢). (٢) مسند أحمد وسنن أبي داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود. وقد تقدم. (٣) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم (١/ ٣٤)، رقم (١١٣).