الصورةُ الرابعةُ: إقامةُ الحدودِ عليهم عندَ ظُهورِ معصيةٍ منهم كانتْ تَستوجِبُ حدًّا أو تعزيزًا؛ وعلى هذا حمَلَ جِهادَهُمْ في الآيةِ جماعةٌ مِن السلفِ؛ كالحَسَنِ وقتادَةَ وغيرِهما (١)، ما لم تَقُمْ مصلَحةٌ ظاهرةٌ بالتغافُلِ عن زَلَّتِهم والعَفْوِ عنها؛ كما ترَكَ النبُّ ﷺ قَتْلَ عبد اللهِ بنِ أُبيٍّ؛ خشيةَ أن يتحدَّثَ الناسُ أنَّ محمدًا يقتُلُ أصحابَهُ (٢).
وقد ذكَرَ غيرُ واحدٍ مِن العُلَماءِ: أنَّ هذه الآيةَ: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ ناسخةٌ لكلٍّ آيةِ فيها لِينٌ ورِفْقٌ بالمنافِقينَ، وعفوٌ وصفحٌ عنهم، وبهذا قال الفرطبيُّ (٣)، وابن تيميَّة (٤)؛ وذلك كقولِهِ تعالى: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٨]، والأظهَرُ: أنَّ اللهَ نسَخَ ذلك؛ لتغيُّرِ حالِ نبيِّه إلى قوَّةٍ، وحالِ المُنافِقينَ إلى ضَعْفٍ، وإن كان في المُسلِمينَ مُشابَهةٌ لحالِ النبيِّ ﷺ الأُولى، فيُعمَلُ بآياتِ التعامُلِ معَ المنافِقينَ الأُولى، واللهُ أعلَمُ، وفي حالِ قُوَّةِ المُسلِمينَ والإسلامِ لا يجوزُ تغليبُ العفوِ والصفحِ واللِّينِ معهم.
في هذه الآيةِ: دليلٌ على أنَّ مَن وقَعَ منه خِيَانةٌ وغَدْرٌ وضَرَرٌ: لا يُعادُ فيُوَلَّى على ما غدَرَ به؛ وذلك أنَّ اللهَ لم يأذَن للمُنافِقينَ بعدَ ما سبَقَ منهم، ولقولِهِ ﷺ:(لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ)(٥).