للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صلح أن يخصص عموم الآية، ويحمل على الإِتيان في غير هذا المحل بناء على أن معنى {أَنَّى} (حيث)، وهو المتبادر إلى السياق، ويغني ذلك عن حملها على معنى آخر غير المتبادر (١)، والله أعلم" (٢).

وقال الطبري: قوله {أنى شئتم}، يعني: "من أيّ وجه شئتم، وذلك أن (أنَّى) في كلام العرب كلمة تدلّ إذا ابتدئ بها في الكلام على المسألة عن الوجوه والمذاهب، وقد فرَّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها، فقال الكميت بن زيد (٣):

تَذَكَّر مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبَهُ ... يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأبِلْ

وقال أيضًا (٤):

أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ - آبَكَ - الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ

فيجاء بـ " أنى " للمسألة عن الوجه، وبـ " أين " للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أيّ وجه، ومن أي موضع راجعك الطرب؟

قال الطبري: " والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، كيف شئتم - أو تأوله بمعنى: حيث شئتم أو بمعنى: متى شئتم أو بمعنى: أين شئتم أن قائلا لو قال لآخر: " أنى تأتي أهلك؟ لكان الجواب أن يقول: " من قُبُلها، أو: من دُبُرها كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذْ سئلت: (أَنَّى لَكِ هَذَا) أنها قالت: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلومٌ أن معنى قول الله تعالى ذكره: " فأتوا حرثكم أنى شئتم إنما هو: فأتوا حرثكم من حيثُ شئتم من وجوه المأتى - وأنّ ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل، وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبيِّنٌ خطأ قول من زعم أن قوله: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، دليلٌ على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدُّبر لا مُحْتَرَثَ فيه، وإنما قال تعالى ذكره: {حرث لكم}، فأتوا الحرث من أيّ وجوهه شئتم. وأيُّ مُحْتَرَث في الدُبر فيقال: ائته من وجهه؟ وبيِّنٌ بما بينا، صحةُ معنى ما روي عن جابر وابن عباس: من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين: " إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبرها في قُبُلها، جاء الولد أحول"" (٥).


(١) فالحافظ ابن حجر في قوله أبقى اللفظ على حقيقته ولم يتجه إلى القول بالمجاز، لكن لم أرَ من نص عليه، وإن كان الأولى حمل كلام من قال بأن (أَنَّى) في الآية بمعنى حيث أو أين على ذلك. والله تعالى أعلم.
(٢) الفتح: ٨/ ٣٩ - ٤٠.
(٣) اللسان (أبل) آمره يؤامره: شاوره. وقوله: " نفيسه " جعل النفس نفسين، لأن النفس تأمر. المرء بالشيء وتنهى عنه، وذلك في كل مكروه أو مخوف فجعلوا ما يأمره " نفسًا " وما ينهاه " نفسًا " وقد بينها الممزق العبدي في قوله:
أَلا مَنْ لِعَيْنٍ قَدْ نَآهَا حَمِيمُهَا ... وَأَرَّقَنِي بَعْدَ المَنَامِ هُمُومُها
فَبَاتَتْ له نَفْسَانِ شَتَّى هُمُومُها ... فنَفْسٌ تُعَزِّيهَا ونفْسٌ تَلُومُها
و" الهجمة ": القطعة الضخمة من الإبل من السبعين إلى المئة. ويقال: " رجل أبل " إذا كان حاذقا بمصلحة الإبل والقيام عليها. ولم أجد شعر الكميت، ولكني أرجح أن هذا البيت من أبيات في حمار وحش، قد أخذ أتنه (وهي إناثه) ليرد بها ماء، فوقف بها في موضع عين قديمة كان شرب منها، فهو متردد في موقفه، فشبهه يراعى الإبل الكثيرة، إذا كان خبيرًا برعيتها فوقف بها ينظر أين يسلك إلى الماء والمرعى.
(٤) الهاشميات: ٣١. قوله: " آبك " معترضة بين كلامين كما تقول: " ويحك " بين كلامين وسياقه " أنى ومن أين الطرب "؟ و " آبك " بمعنى " ويلك " يقال لمن تنصحه ولا يقبل ثم يقع فيما حذرته منه، كأنه بمعنى: أبعدك الله! دعاء عليه؟ من ذلك قول رجل من بني عقيل:
أَخَبَّرْتَنِي يَا قَلْبُ أَنَّكَ ذُو غَرًى ... بَليْلَي? فَذُقْ مَا كُنْتَ قبلُ تَقُولُ! فآبَكَ!
هلاَّ وَاللَّيَالِي بِغِرَّةٍ ... تُلِمُّ وَفِي الأَيَّامِ عَنْكَ غُفُولُ! !
بيد أن أبا جعفر فسر " آبك " بمعنى: " راجعك الطرب " من الأوبة، وهو وجه في التأويل، ولكن الأجود ما فسرت والشعر بعده دال على صواب ما ذهبت إليه.
(٥) تفسير الطبري: ٤/ ٤١٥ - ٤١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>