وقال القرطبي:" هذه الأحاديث نص في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث، أي كيف شئتم من خلف ومن قدام وباركة ومستلقية ومضطجعة، فأما الإتيان في غير المأتى فما كان مباحا، ولا يباح! وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم"(١).
قلت: الأولى حمل كلام من قال بأن {أَنَّى} في الآية بمعنى (حيث) أو (أين) على ذلك، لثبوت النهي عن إتيان النساء في أدبارهن عن النبي صلى الله عليه وسلم (٢)، ولأنه لو صح جواز إتيان النساء في أدبارهن عن النبي
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٩٣. ثم قال: " معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة، كما ذكرنا آنفا. و"أنى" تجيء سؤالا وإخبارا عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من "كيف" ومن "أين" ومن "متى"، هذا هو الاستعمال العربي في "أنى". وقد فسر الناس "أنى" في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسرها سيبوبه بـ "كيف" ومن "أين" باجتماعهما. وذهبت فرقة ممن فسرها بـ "أين" إلى أن الوطء في الدبر مباح، وممن نسب إليه هذا القول: سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبدالملك بن الماجشون، وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى "كتاب السر". وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له "كتاب سر". ووقع هذا القول في العتبية. وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب "جماع النسوان وأحكام القرآن". وقال الكيا الطبري: وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قول الله عز وجل: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: ١٦٦]. وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح. قال الكيا: وهذا فيه نظر، إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتك، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى. وفي قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} مع قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ما يدل على أن في المأتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد. قلت: هذا هو الحق في المسألة. وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر أن العلماء لم اختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب ترد به، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبدالعزيز من وجه ليس بالقوي أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء، ولو كان موضعا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. وفي إجماعهم أيضا على أن العقيم التي لا تلد لا ترد. والصحيح في هذه المسألة ما بيناه. وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرؤون من ذلك، لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث، لقوله تعالى: : {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}، ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح، وهذا هو الحق. وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم، ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع. وأما صمام البول فغير صمام الرحم. وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين، وأخرج يده عاقدا بها. وقال: مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة، وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة. فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي! ثم قال: ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت! وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: {أنى شئتم} شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه "تحريم المحل المكروه". ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه "إظهار إدبار، من أجاز الوطء في الأدبار". قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه. وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي، وقد تقدم. وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه. وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض بهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت له الدبر، فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! وأسند عن خزيمة بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن". ومثله عن علي بن طلق. وأسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة" وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تلك اللوطية الصغرى " يعني إتيان المرأة في دبرها. وروي عن طاوس أنه قال: كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن. قال ابن المنذر: وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغني به عما سواه". (تفسير القرطبي: ٤/ ٩٤ - ٩٥). (٢) من الأحاديث في نهي إتيان النساء من الدبر والتي ذكرها ابن كثير: - قال محمد بن أبان البلخي: حدثنا وكيع، حدثنا زمعة بن صالح، عن ابن طاوس، عن أبيه - وعن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن يزيد بن الهاد قالا قال عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن". ذكره الدارقطني في العلل (٢/ ١٦٧) قال: "ولم يذكر طاوسا في حديث عمرو بن دينار، وقول عثمان بن اليمان أصحها". - وقد رواه النسائي: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، عن عثمان بن اليمان، عن زمعة بن صالح، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن الهاد، عن عمر قال: "لا تأتوا النساء في أدبارهن". سنن النسائي الكبرى برقم (٩٠٠٨). - وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، عن زمعة بن صالح، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن عبد الله بن الهاد الليثي قال: قال عمر رضي الله عنه: استحيوا من الله، فإن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن سنن النسائي الكبرى برقم (٩٠٠٩). الموقوف أصح. حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا غُنْدَر ومعاذ بن معاذ قالا حدثنا شعبة عن عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلام، عن طلق بن يزيد - أو يزيد بن طلق - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أستاههن". ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (٤/ ٣٨٤) من طريق غندر في مسند علي بن طلق، ولا أدري كيف وقع هنا يزيد بن طلق، وقد بين الحافظ الصواب في ذلك، والله أعلم. وكذا رواه غير واحد، عن شعبة. ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلام، عن طلق بن علي، والأشبه أنه علي بن طلق، كما تقدم، والله أعلم. - حديث آخر: قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا أبو مسلم الحَرَميّ، حدثنا أخي أنيس بن إبراهيم أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره، عن أبيه أبي القعقاع، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "محاش النساء حرام". ورواه الدولابي في الكنى (٢/ ٨٥). وقد رواه إسماعيل بن علية، وسفيان الثوري، وشعبة، وغيرهم، عن أبي عبد الله الشقري - واسمه سلمة بن تمام: ثقة - عن أبي القعقاع، عن ابن مسعود - موقوفًا. وهو أصح. طريق أخرى: قال ابن عدي: حدثنا أبو عبد الله المحاملي، حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا محمد بن حمزة، عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تأتوا النساء في أعجازهن" الكامل لابن عدي (٣/ ٢٠٦). محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه، فيهما مقال. وقد روي من حديث أبي بن كعب (حديث أبي بن كعب رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٥٤٥٧) من طريق أبي قلابة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب به) والبراء بن عازب، وعقبة بن عامر (حديث عقبة بن عامر رواه ابن عدي في الكامل (٤/ ١٤٨) من طريق ابن لهيعة، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة به. وأبي ذر، وغيرهم. وفي كل منها مقال لا يصح معه الحديث، والله أعلم. - وقال الثوري، عن الصَّلت بن بَهْرام، عن أبي المعتمر، عن أبي جويرية قال: سأل رجل عليا عن إتيان امرأة في دبرها، فقال: سفلت، سَفَّلَ الله بك! ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: ٨٠]. وقد تقدم قول ابن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو في تحريم ذلك، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه يحرمه. - قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الدارمي في مسنده: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري، أنحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكر الدُّبر. فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟ وكذا رواه ابن وهب وقتيبة، عن الليث، به. وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم. - وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: حدثني إسماعيل بن حصين، حدثني إسماعيل بن روح: سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن: قال: ما أنتم قوم عرب. هل يكون الحرث إلا موضع الزرع، لا تعدو الفرج. قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون: إنك تقول ذلك؟ ! قال: يكذبون علي، يكذبون علي. قال ابن كثير: فهذا هو الثابت عنه، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة. وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعكرمة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف: أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فاعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء. وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة، حتى حكوه عن الإمام مالك، وفي صحته عنه نظر. قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحدًا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال. يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ثم قال: فأي شيء أبين من هذا؟ هذه حكاية الطحاوي. (انظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٥٨٨ - ٥٨٩).