[الْمَسْأَلَةُ الخامسة نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ إِلَى بَدَلٍ أَخَفَّ مِنْهُ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
وَكَمَا يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ، يَجُوزُ نَسْخُهُ إِلَى بَدَلٍ أَخَفَّ مِنْهُ كَنَسْخِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ إِلَى حِلِّهِ، وَإِلَى بَدَلٍ مُمَاثِلٍ، كَنَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقُدْسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذَانِ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى بَدَلٍ أَثْقَلَ مِنْهُ.
وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ عَقْلًا، وَمَنَعَ مِنْهُ سَمْعًا.
وَدَلِيلُ جَوَازِهِ عَقْلًا مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ صِيَامَ رَمَضَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مُخَيِّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ بِالْمَالِ، وَنَسَخَهُ بِتَحَتُّمِ الصَّوْمِ، وَهُوَ أَثْقَلُ مِنَ الْأَوَّلِ. (١) وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ الْحَبْسَ فِي الْبُيُوتِ وَالتَّعْنِيفَ حَدًّا عَلَى الزِّنَا، وَنَسَخَهُ بِالضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ وَالتَّغْرِيبِ عَنِ الْوَطَنِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ وَبِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، (٢) وَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ. (٣) وَكُلُّ ذَلِكَ أَثْقَلُ مِنَ الْأَوَّلِ.
(١) يُشِيرُ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الصِّيَامِ وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ " حَتَّى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .(٢) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيَّ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي "، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ.(٣) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: " مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ ". وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute