قَوْلُهُمْ: إِنَّ وُجُوبَ التَّرَبُّصِ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ.
قُلْنَا: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي أَنَّهُ كَانَ التَّرَبُّصُ حَوْلًا كَامِلًا وَاجِبًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ سَنَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَذَلِكَ مِمَّا رُفِعَ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنِ امْتِنَاعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ إِبْطَالًا لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَى قَطْعِ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مَعَ كَوْنِ الْمُخَاطِبِ مُرِيدًا لِقَطْعِهِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِبْطَالًا لَهُ بَلْ تَحْقِيقًا لِمَقْصُودِهِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِ مُوسَى فَمُخْتَلَقٌ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ ذَلِكَ لَهُمُ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ (١) لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ظَهَرَ مِنْ تَسَمُّحِهِ فِي الدِّينِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ كَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَابْنِ سَلَامٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ (٢) وَغَيْرُهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَا فِي التَّوْرِيَةِ، وَقَدْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَكَانَ مِنْ أَقْوَى مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعَارَضَتِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي نَفْسِ مَتْنِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحَدِيثَ: " «إِنْ أَطَعْتُمُونِي لِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ثَبَتَ مُلْكُكُمْ كَمَا ثَبَتَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ» " وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِحَالَةِ النَّسْخِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ مَا نَقَلُوهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّرِيعَةِ التَّوْحِيدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " مُؤَبَّدَةً " مَا لَمْ تُنْسَخْ بِشَرِيعَةِ نَبِيٍّ آخَرَ.
(١) ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ هُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ كَانَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ اشْتُهِرَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الرَّاوَنْدِيَّةُ إِحْدَى فِرَقِ الْمُعْتَزِلَةِ تُوُفِّيَ عَامَ ٧٩٨ هـ.(٢) كَعْبُ الْأَحْبَارِ بْنُ مَاتِعٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْحِمْيَرِيُّ أَسْلَمَ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ عَامَ ٣٢ هـ عَنْ ١٠٤ سَنَةٍ، وَابْنُ سَلَامٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَبُو يُوسُفَ الْإِسْرَائِيلِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ عَامَ ٤٣ هـ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ كَامِلٍ الْيَمَانِيُّ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَبْنَاوِيُّ، وُلِدَ عَامَ ٣٤ هـ، وَمَاتَ عَامَ ١١٠ أَوْ ١١٦.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute