{وَالطَّيْرُ} أَيْ وَنَادَيْنَا الطَّيْرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ تَرْجِيح التَّسْبِيح مَعَه. وَقَوله مَنْ قَالَ {أَوّبِى مَعَهُ} : أَيْ سِيرِي مَعَهُ، وَأَنَّ التَّأْوِيبَ سَيْرُ النَّهَارِ سَاقِطٌ كَمَا تَرَى، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} .
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ دَاوُدَ الْمَذْكُورَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يَجْعَلُ لَهَا إِدْرَاكَاتٍ تُسَبِّحُ بِهَا، يَعْلَمُهَا هُوَ جَلَّ وَعَلَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا. كَمَا قَالَ: {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (١) : أَنَّ الْجِذْعَ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ بِالْخُطْبَةِ إِلَى الْمِنْبَرِ سُمِعَ لَهُ حَنِينٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (٢) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجْرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبعث، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالتَّسْبِيحُ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَة {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ} أَيْ جَعَلْنَاهَا بِحَيْثُ تُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهَا بالتسبيح وَالظَّاهِر أَن قَوْله {وَكُنَّا
(١) - صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (٣/١٣١٤) (٣٣٩٢) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -.(٢) - صَحِيح مُسلم (٤/١٧٨٢) (٢٢٧٧) مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute