وُجِدَ الْمَاءُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً; وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا, فَإِذَا بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهَا. وَأَيْضًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاءُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ" وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك" وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "وَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك" وَدَلَالَتُهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ" فَأَخْبَرَ بِالْحَالِ الَّتِي يَكُونُ التُّرَابُ فِيهَا طَهُورًا, وَهُوَ أَنْ لَا يَجِدَ الْمَاءَ, وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَبَعْدَهُ. فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كَوْنَهُ طَهُورًا بِهَذِهِ الْحَالِ دُونَ غَيْرِهَا, فَمَتَى صَلَّى بِهِ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فَهُوَ مُصَلٍّ بِغَيْرِ طَهُورٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك" وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ قَبْلِ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ, فَهُوَ عَلَى الْحَالَيْنِ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ مَتَى وَجَدَهُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ, فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْبِنَاءَ; كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا مَنَعَ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ مَنَعَ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا, إذْ كَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِمَا جَمِيعًا الطَّهَارَةُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَهُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الطَّهَارَةِ; لِأَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ فِيهَا لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ, وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ سَائِرِ الْفُرُوضِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ مِثْلُ وُجُودِ الثَّوْبِ لِلْعُرْيَانِ, وَعِتْقِ الْأَمَةِ فِي لُزُومِهَا تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ, وَخُرُوجِ وَقْتِ الْمَسْحِ; فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ كَوْنُهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ لُزُومِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّحْرِيمَةُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ فَاعِلًا لِجُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا بَعْدَ الدُّخُولِ, وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْمُضِيَّ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَحْدَثَ جَازَ الْبِنَاءُ عِنْدَك إذَا تَوَضَّأَ, وَلَا تَجُوزُ التَّحْرِيمَةُ بَعْدَ الْحَدَثِ. قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْحَدَثِ قَبْلَ الطَّهَارَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ, وَإِنَّمَا نُجِيزُ لَهُ الْبِنَاءَ إذَا تَوَضَّأَ, وَأَنْتَ تُجِيزُهُ قَبْلَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا اخْتَلَفَ حَالَ الصَّلَاةِ وَقَبْلَهَا فِي التَّيَمُّمِ لِسُقُوطِ فَرْضِ الطَّلَبِ عَنْهُ بِدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ; لِأَنَّ كَوْنَهُ فِيهَا يُنَافِي فَرْضَ الطَّلَبِ, وَأَمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا فَفَرْضُ الطَّلَبِ قَائِمٌ عَلَيْهِ, فَلِذَلِكَ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ إذَا وَجَدَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْلُك فِي لُزُومِ فَرْضِ الطَّلَبِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا, فَفَاسِدٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِيمَا سَلَفَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ سَلَّمْنَاهُ لَك لَانْتَقَضَ عَلَى أَصْلِك, وَذَلِكَ أَنَّ بَقَاءَ فَرْضِ الطَّلَبِ يُنَافِي صِحَّةَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَك, فَلَا يَخْلُو إذَا طَلَبَ وَلَمْ يَجِدْ فَتَيَمَّمَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الطَّلَبِ قَائِمًا عَلَيْهِ أَوْ سَاقِطًا عَنْهُ, فَإِذَا كَانَ فَرْضُ الطَّلَبِ قَائِمًا عَلَيْهِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَصِحَّ دُخُولُهُ; إذْ كَانَ بَقَاءُ فَرْضِ الطَّلَبِ يُنَافِي صِحَّةَ الصَّلَاةِ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّيَمُّمِ أَيْضًا عَلَى أَصْلِك. وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الطَّلَبِ سَاقِطًا عَنْهُ, فَالْوَاجِبُ عَلَى قَضِيَّتِك أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ, كَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَلَمَّا أَلْزَمْته اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute