وَكَانَ هَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِي تِلْكَ النَّظْرَةِ (١) تَوَصَّلُوا إِلَى الْهَرَبِ مِنْهُ. وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ. وأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ وَدَخَلَ الْفِتْيَةُ الْكَهْفَ سَائِلِينَ اللَّهَ تَعَالَى رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ بِهِمْ، فصَبَّرهم اللهُ عَلَى مُخَالَفَةِ قَوْمِهِمْ وَمَدِينَتِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَالسَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ فَنَامُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ مَنْ يُقَلِّبُهُمْ وَحَوَّلَ الشَّمْسَ عَنْهُمْ فَلَوْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ لَأَحْرَقَتْهُمْ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يُقَلَّبُونَ لَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ، ورَبَضَ كَلْبُهُمْ عَلَى الْبَابِ كأنه يَحْرُسُهُمْ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْكِلَابِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ كَلْبَ صَيْدٍ لِأَحَدِهِمْ. وَكَانَ جُلُوسُهُ خَارِجَ الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ. وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَهَذَا فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ؛ فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذِكْرٌ وَخَبَرٌ وَشَأْنٌ. وأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَهَابَةَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ نَظَرُ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ إِلَّا هَابَهُمْ؛ لِمَا أُلْبِسُوا مِنَ الْمَهَابَةِ وَالذُّعْرِ، لِئَلَّا يَدْنُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا تَمَسَّهُمْ يَدُ لَامِسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَتَنْقَضِيَ رَقْدَتُهُمُ الَّتِي شَاءَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحُجَّةِ وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ. فَجَاءَ أَهَالِيهِمْ يَطْلُبُونَهُمْ فَفَقَدُوهُمْ فَأَخْبَرُوا الْمَلِكَ، وتَطَلَّبهم الْمَلِكُ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، وعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ. فَأَمَرَ بِكِتَابَةِ أَسْمَائِهِمْ فِي لَوْحٍ مِنْ رَصَاصٍ -وهو الرقيم- وَجَعَلَهُ فِي خِزَانَتِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمَلِكُ وَجَاءَ آخَرُ فَكَسَّرَ الْأَوْثَانَ وَعَبَدَ اللَّهَ وَعَدَلَ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ صَحِيحَةً أَبْدَانُهُمْ وَأَشْعَارُهُمْ وَأَبْشَارُهُمْ، لَمْ يَفْقِدُوا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ شَيْئًا، وَذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ؛ وَلِهَذَا تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ: {كَمْ لَبِثْتُمْ}؟ أَيْ: كَمْ رَقَدْتُمْ؟، وكَانَ دُخُولُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ فِي أَوَّلِ نَهَارٍ، وَاسْتِيقَاظُهُمْ كَانَ فِي آخِرِ نَهَارٍ؛ فقَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، ثم قَالُوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}، وحصل احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَأَرْسَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَأْتِيهِمْ بِمَا يَأْكُلُونَ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ مُسْتَخْفِيًا فَرَأَى هَيْئَةً وَنَاسًا أَنْكَرَهُمْ لِطُولِ الْمُدَّةِ فَدَفَعَ دِرْهَمًا إِلَى خَبَّازٍ فَاسْتَنْكَرَ ضَرْبَهُ وَهَمَّ بِأَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: أَتُخَوِّفُنِي بِالْمَلِكِ وَأَبِي دِهْقَانُهُ (٢). فَقَالَ: من أَبوك؟! قَالَ: فُلَانٌ. فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَرَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِاللَّوْحِ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ بِهِ، فَسَمَّى أَصْحَابَهُ فَعَرَفَهُمْ مِنَ اللَّوْحِ، فَكَبَّرَ النَّاسُ وَانْطَلَقُوا إِلَى الْكَهْفِ، وَسَبَقَ الْفَتَى لِئَلَّا يَخَافُوا مِنَ الْجَيْشِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمْ؛ عَمَّى اللَّهُ عَلَى الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ الْمَكَانَ، فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ الْفَتَى، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَبْنُوا عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، فَجَعَلُوا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُم وَيدعونَ لَهُم.
(١) الفترة والمهلة.(٢) الدهقان: رئيس القرية وزعيم الفلاحين. والتاجر الكبير، ومن له مال عقار، ومدير الأعمال القويُّ على التصرف مع شدة خبرته.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute