كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ ثُمَّ لَا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَهَا إِلَّا الشَّهِيقَ وَالزَّفِيرَ، وَيَصِيرُ لَهُمْ عُوَاءٌ كَعُوَاءِ الْكِلَابِ لَا يَفْهَمُونَ وَلَا يُفْهَمُونَ، رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ أَرْبَعِينَ عَامًا: (١) "يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ" (الزُّخْرُفِ -٧٧) فَلَا يُجِيبُهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: "إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ" (الزُّخْرُفِ -٧٧) ، ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فَيَدَعُهُمْ مِثْلَ عُمُرِ الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فَلَا يَنْبِسُ الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ إِنْ كَانَ إِلَّا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا قِيلَ لَهُمُ: "اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ" انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ يَنْبَحُ فِي وَجْهِ بَعْضٍ، وَأُطْبِقَتْ عَلَيْهِمْ.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١) }
{إِنَّهُ} الْهَاءُ فِي "إِنَّهُ" عِمَادٌ وَتُسَمَّى أَيْضًا الْمَجْهُولَةَ، {كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "سُخْرِيًّا" بِضَمِّ السِّينِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ ص، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهِمَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى الضَّمِّ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ. قَالَ الْخَلِيلُ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: بَحْرٌ لُجِّيٌّ، ولِجِّيٌّ بِضَمِّ اللَّامِ وَكَسْرِهَا، مِثْلَ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ وَدِرِّيٍّ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: الْكَسْرُ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى التَّسْخِيرِ وَالِاسْتِعْبَادِ بِالْفِعْلِ، وَاتَّفَقُوا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى التَّسْخِيرِ، {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ} أَيْ: أَنْسَاكُمُ اشْتِغَالُكُمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ وَتَسْخِيرِهِمْ، {ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} نَظِيرُهُ: "إِنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ" (المُطَفِّفِينَ -٢٩) قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي بِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَابٍ وَصُهَيْبٍ وَسَلْمَانَ وَالْفُقَرَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَانَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ (٢) . {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} عَلَى أَذَاكُمْ وَاسْتِهْزَائِكُمْ فِي الدُّنْيَا، {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "أَنَّهُمْ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِصَبْرِهِمُ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ.
(١) أخرجه الحاكم: ٢ / ٣٩٥ وصححه ووافقه الذهبي، لكن بلفظ "يوما" بدل عام.(٢) انظر البحر المحيط: ٦ / ٤٢٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute