أولاً: أن "جعل" تكون بمعنى: خلق إذا تعدت إلى مفعول واحد. كقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ... الآية [الأنعام: ١]. وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: ٣٠].أما إذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى خلق، قال تعالى: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ... الآية [النحل: ٩١]. وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ .... [البقرة: ٢٢٤]. والآية التي استدلوا بها:"جعل" فيها قد تعدت إلى مفعولين، فهي ليست بمعنى خلق (١).
ثانياً: أن معنى "جعل" هنا "صرف" فيكون معنى الآية: إنا صرفناه من لغة إلى لغة؛ أي: صرفه الله إلى اللغة العربية؛ وذلك أن كلام الله واحد وهو سبحانه وتعالى محيط بجميع اللغات، فهو إن شاء جعل كلامه عبرياً، وإن شاء جعله عربياً. يقول الطبري - عند تفسير هذه الآية -: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣] أي: "أنزلناه بلسان عربي"(٢).
فإذا كانت "جعل" ليست بمعنى خلق؛ بل بمعنى صرف، بطل استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم.
الشبهة الثالثة: يقول القاضي عبد الجبار: "وقوله تعالى: .... نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: ٣٠] يوجب حدوث النداء؛ لأنه جعل الشجرة ابتداء غايته، وهذا يوجب حدوثه فيها"(٣).ويروى الرازي استدلال المعتزلة بهذه الآية، فيقول:"احتجت المعتزلة على قولهم: إن الله تعالى تكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله تعالى: ... مِنَ الشَّجَرَةِ، فإن هذا صريح في أن موسى - عليه السلام - سمع النداء من الشجرة والمتكلم بذلك النداء هو الله - سبحانه وتعالى -، وهو تعالى منزه أن يكون في جسم، فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم"(٤).