ولهذا كان أهل المعرفة من أعظم الناس قولا بدخول الزيادة والنقصان فيه؛ لما يجدون من ذلك في أنفسهم. ومن هذا قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: ١٧٣]، وإنما زادهم طمأنينة وسكونا، وقال صلى الله عليه وسلم:((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا)) (١).
الوجه الثالث: أن نفس التصديق والعلم الذي في القلب يتفاضل باعتبار الإجمال والتفصيل.
فليس تصديق من صدق الرسول مجملا من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره، كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته، والجنة والنار، والأمم، وصدقه في ذلك كله. وليس من التزم طاعته مجملا ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به، كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلا وأطاعه فيه (٢).الوجه الرابع: أن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت، كما يتفاضل سائر صفات الحي، من القدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة، والسواد، والبياض، ونحو ذلك، وعامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون تقبل التفاضل (٣).فالعلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه (٤).
وما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته، بل وغير صفات الحي إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر. والإنسان يجد في نفسه أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه كما يتفاضل حاله في سمعه لمسموعه، ورؤيته لمرئيه، وقدرته على مقدوره، وحبه لمحبوبه، وبغضه لبغيضه، ورضاه بمرضيه، وسخطه لمسخوطه، وإرادته لمراده، وكراهيته لمكروهه، ومن أنكر التفاضل في هذه الحقائق كان مسفسطا (٥).وأيضا فإن التصديق المستلزم عمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، وإذا كان شخصان يعلمان أن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وهذا علمه أوجب له محبة الله وخشيته، والرغبة في الجنة والهرب من النار، والآخر علمه لم يوجب له ذلك، فعلم الأول أكمل (٦).والمعرفة نفسها تختلف بالإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور، ومع الغفلة، فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل ما يريبه فيها ذكرها في قلبه ثم رغب إلى الله في كشف الريب (٧).
الوجه الخامس: أن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها.