فأما ما بعد (خَلَقَ الْإِنْسانَ) و (خَلَقَ الْجَانَّ) فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) وَالْآلَاءُ النِّعَمُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَاحِدُهَا إِلًى وَأَلًى مِثْلُ مِعًى وَعَصًا، وَإِلْيٌ وَأَلْيٌ أَرْبَعُ لُغَاتٍ حَكَاهَا النَّحَّاسُ قَالَ: وَفِي وَاحِدِ (آناءَ اللَّيْلِ) ثَلَاثٌ تَسْقُطُ مِنْهَا الْمَفْتُوحَةُ الْأَلِفِ الْمُسَكَّنَةُ اللَّامِ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ) «١» وَ (النَّجْمِ) «٢». وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَبِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَاخْتَارَهُ التِّرْمِذِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ عَلَمُ الْقُرْآنِ، وَالْعَلَمُ إِمَامُ الْجُنْدِ وَالْجُنْدُ تَتْبَعُهُ، وَإِنَّمَا صَارَتْ عَلَمًا لِأَنَّهَا سُورَةُ صِفَةِ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ، فَقَالَ: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) فَافْتَتَحَ السُّورَةَ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَصِفُهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهِ وَمِنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ الْعُظْمَى مِنْ رَحْمَانِيَّتِهِ فَقَالَ: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْسَانَ فَقَالَ: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ثُمَّ ذَكَرَ مَا صَنَعَ بِهِ وَمَا مَنَّ عَلَيْهِ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حُسْبَانَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَسُجُودَ الْأَشْيَاءِ مِمَّا نَجَمَ وَشَجَرَ، وَذَكَرَ رَفْعَ السَّمَاءِ وَوَضْعَ الْمِيزَانِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَوَضْعَ الْأَرْضِ لِلْأَنَامِ، فَخَاطَبَ هَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ حِينَ رَأَوْا مَا خَرَجَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ بِرَحْمَانِيَّتِهِ الَّتِي رَحِمَهُمْ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلَا حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ، فَأَشْرَكُوا بِهِ الْأَوْثَانَ وَكُلَّ مَعْبُودٍ اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِهِ، وَجَحَدُوا الرَّحْمَةَ الَّتِي خَرَجَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِهَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ سَائِلًا لَهُمْ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أَيْ بِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فَإِنَّمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ شَرِيكًا يملك معه يقدر مَعَهُ، فَذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ صَلْصَالٍ، وَذَكَرَ خَلْقَ الْجَانِّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ فَقَالَ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أَيْ بِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فَإِنَّ لَهُ فِي كُلِّ خَلْقٍ بَعْدَ خَلْقٍ قُدْرَةً بَعْدَ قُدْرَةٍ، فَالتَّكْرِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيرِ، وَاتِّخَاذِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا وَقَفَهُمْ عَلَى خَلْقٍ خَلْقٍ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع
(١). راجع ج ٧ ص ٢٣٧.(٢). راجع ص ١٢١ من هذا الجزء.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute