الَّذِي يُحَاسَبُونَ فِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ." لِلنَّاسِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ" إِلَى قَوْلِهِ:" أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ". وَقِيلَ: النَّاسُ عُمُومٌ وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا بَعْدُ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَنْ عَلِمَ اقْتِرَابَ السَّاعَةِ قَصُرَ أَمَلُهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَمْ يَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا، فَكَأَنَّ مَا كَانَ لَمْ يَكُنْ إِذَا ذَهَبَ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، وَالْمَوْتُ لَا مَحَالَةَ آتٍ، وَمَوْتُ كُلِّ إِنْسَانٍ قِيَامُ سَاعَتِهِ، وَالْقِيَامَةُ أَيْضًا قَرِيبَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، فَمَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا أَقَلُّ مِمَّا مَضَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى" اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ" أَيْ عَذَابُهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، لِأَنَّهُمُ اسْتَبْطَئُوا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ تَكْذِيبًا، وَكَانَ قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. النَّحَّاسُ وَلَا يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ اقْتَرَبَ حِسَابُهُمْ لِلنَّاسِ، لِئَلَّا يَتَقَدَّمُ مُضْمَرٌ عَلَى مُظْهَرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ التَّأْخِيرَ. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَالِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:" وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ" يَعْنِي بِالدُّنْيَا عَنِ الْآخِرَةِ. الثَّانِي- عَنِ التَّأَهُّبِ لِلْحِسَابِ وَعَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ الْوَاوُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِمَعْنَى" إِذْ" وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النَّحْوِيُّونَ وَاوَ الْحَالِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:" يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ" «١» [آل عمران: ١٥٤]. قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) " مُحْدَثٍ" نَعْتٌ لِ"- ذِكْرٍ". وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ" مُحْدَثًا" بِمَعْنَى مَا يَأْتِيهِمْ مُحْدَثًا، نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا رَفْعَ" مُحْدَثٍ" عَلَى النَّعْتِ لِلذِّكْرِ، لِأَنَّكَ لَوْ حَذَفْتَ" مِنْ" رَفَعْتَ ذِكْرًا، أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٌ، يُرِيدُ فِي النُّزُولِ وَتِلَاوَةِ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ سُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ، وَآيَةً بَعْدَ آيَةٍ، كَمَا كَانَ يُنَزِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، لَا أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. وَقِيلَ: الذِّكْرُ مَا يُذَكِّرُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعِظُهُمْ بِهِ. وَقَالَ:" مِنْ رَبِّهِمْ" لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، فَوَعْظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْذِيرُهُ ذِكْرٌ، وَهُوَ مُحْدَثٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ" «٢» [الغاشية: ٢١]. ويقال: فلان في مجلس
(١). راجع ج ٤ ص ٢٤٢.(٢). راجع ج ٢٠ ص ٣٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute