فَصْلٌ ١:
وَمِنْ أَسْبَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْغُلُوُّ فِي الْمَخْلُوقِ وَإِعْطَاؤُهُ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ حَتَّى جَعَلُوا فِيهِ حَظًّا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَشَبَّهُوهُ بِاللَّهِ تَعَالَى, وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ الْوَاقِعُ فِي الْأُمَمِ الَّذِي أَبْطَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَبَعَثَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِإِنْكَارِهِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِهِ, فَهُوَ سُبْحَانُهُ يَنْفِي وَيَنْهَى أَنْ يُجْعَلَ غَيْرُهُ مِثْلًا لَهُ وَنِدًّا وَشِبْهًا لَهُ, لَا أَنْ يُشَبَّهَ هُوَ بِغَيْرِهِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأُمَمِ أُمَّةٌ جَعَلَتْهُ سُبْحَانَهُ مَثَلًا لِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَجَعَلَتِ الْمَخْلُوقَ أَصْلًا وَشَبَّهَتْ بِهِ الْخَالِقَ, فَهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ وَإِنَّمَا الْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي طَوَائِفِ أَهْلِ الشِّرْكِ غُلُوًّا فِي مَنْ يُعَظِّمُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ حَتَّى شَبَّهُوهُ بِالْخَالِقِ وَأَعْطَوْهُ خَصَائِصَ الْإِلَهِيَّةِ, بَلْ صَرَّحُوا أَنَّهُ إِلَهٌ وَأَنْكَرُوا جَعْلَ الْآلِهَةِ إِلَهًا وَاحِدًا وَقَالُوا: اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ, وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِلَهٌ مَعْبُودٌ يُرْجَى وَيُخَافُ وَيُعَظَّمُ وَيُسْجَدُ لَهُ وَيُحْلَفُ بِاسْمِهِ وَيُقَرَّبُ لَهُ الْقَرَابِينُ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بَحْثًا نَفِيسًا فَأَجَادَ وَأَفَادَ, ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عُبَّادِ النَّارِ وَالْمَاءِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الثِّنْوِيَّةِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ, وَذَكَرَ مِنْ أَوْضَاعِ شَرَائِعِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَأُصُولِهَا وَكَيْفِيَّةِ عِبَادَتِهِمْ لِمَا أَلَّهُوهُ وَنَقَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَتَمَّ نَقْضٍ٢, تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ.
[أَكْثَرُ شِرْكِ الْأُمَمِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، لَا بِجُحُودِ الصَّانِعِ] :
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ أَكْثَرَ شِرْكِ الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ غَالِبُهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكَ فِي الْإِلَهِيَّةِ, وَلَمْ يُذْكَرْ جَحُودُ الصَّانِعِ إِلَّا عَنِ الدَّهْرِيَّةِ وَالثِّنْوِيَّةِ, وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ جَحَدَهَا عِنَادًا كَفِرْعَوْنَ ونمرود وأضرابهم, فهم مَقْرُونٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ بَاطِنًا كَمَا قَدَّمْنَا, وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا} [النَّمْلِ: ١٤] ، وَبَقِيَّةُ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِيمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا, مَعَ أَنَّ الشِّرْكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ لَازِمٌ لَهُمْ مِنْ
١ من "٢/ ٢٢٦" من إغاثة اللهفان.٢ انظر إلى آخر كتابه إغاثة اللهفان, رحمه الله تعالى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute