واعلم أن التحقيق الذي لا شك فيه: أن الله تعالى يشرع الأحكام لمصالح الخلق؛ فأفعاله وتشريعاته كلها مشتملة على الحكم والمصالح من جلب المنافع، ودفع المضار. فما يزعمه كثير من متأخري المتكلمين تقليدًا لمن تقدمهم: من أن أفعاله جل وعلا لا تعلل بالعلل الغائية، زاعمين أن التعليل بالأغراض يستلزم الكمال بحصول الغرض المتعلل به، وأن الله جل وعلا منزه من ذلك لاستلزامه النقص؛ كله كلام باطل! ولا حاجة إليه البتة؛ لأنه من المعلوم بالضرورة من الدين: أن الله جل وعلا غني لذاته الغنى المطلق، وجميع الخلق فقراء إليه غاية الفقر والفاقة والحاجة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)}، ولكنه جل وعلا يشرع ويفعل لأجل مصالح الخلق المحتاجين الفقراء إليه؛ لا لأجل مصلحة تعود إليه هو سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
وادعاء كثير من أهل الأصول: أن العلل الشرعية مطلق أمارات وعلامات للأحكام؛ ناشئ عن ذلك الظن الباطل؛ فالله جل وعلا يشرع الأحكام لأجل العلل المشتملة على المصالح التي يعود نفعها إلى خلقه الفقراء إليه؛ لا إلى الله جل وعلا {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)}. وقد صرح تعالى وصرح رسوله - صلى الله عليه وسلم -: بأنه يشرع الأحكام من أجل الحِكَم المنوطة بذلك التشريع. وأصرح لفظ في ذلك لفظة {مِنْ أَجْلِ} وقد قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية، وقال - صلى الله عليه وسلم -: