ومن حرية القول حقُّ المراجعة من الضعيف للقوي كمراجعة الابن أباه، والمرأة زوجها. وفي حديث عمر بن الخطاب:"كنا معشرَ قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قومٌ تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبتُ على امرأتي فراجعتني، فأنكرتُ عليها أن تراجعني، قالت: ولِمَ تنكرُ عليّ أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه"، وقد أخبر عمر بذلك رسول الله فأقره. (١)
وقد راجع الصحابةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أشياء من غير التشريع. ومن ذلك لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش أدنَى ماءٍ من بدر في وقعة بدر قال له الحباب بن المنذر:"أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: يا رسول، فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى نأتِيَ أدنَى ماءٍ من القوم فننزله، ثم نغَوِّر ما وراءه من القُلُب، (٢) ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماءً، [ثم نقاتل القوم]، فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أشرتَ بالرأي"". (٣) وقال عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم صلح القضية (٤) حين رأى عزمَ رسول الله على إجابة شروط قريش: "ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل، فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟ "(٥).
ومن حرية القول حرية العلم والتعليم ومظهرها في الإسلام في حالين:
(١) أورد المصنف القصة باختصار فانظرها في صحيح البخاري، "كتاب المظالم"، الحديث ٢٤٦٨، ص ٣٩٨ - ٣٩٩؛ صحيح مسلم، "كتاب الطلاق"، الحديث ١٤٧٩، ص ٥٦٣ - ٥٦٤. (٢) وروي: نعور - بالعين المهملة -أي: نفسدها ونسدمها - أي: ندفنها بالتراب -. شبه القُلُب بعيون الناس، فجعل إفسادها كالعَوَر، يقال: عَوَر العين وعارها. والقُلُب: جمع قليب، وهي البئر القريبةُ الماء. - المصنف. (٣) ابن هشام: السيرة النبوية، ج ١/ ٢، ص ١٩٧ - ١٩٨. (٤) هو صلح الحديبية. (٥) صحيح مسلم، "كتاب الجهاد والسير"، الحديث ١٧٨٥، ص ٧١١ - ٧١٢؛ ابن هشام: السيرة النبوية، ج ٢/ ٣، ص ٢٤٧.