بأمثلةٍ تُوضِّحُها، وقدْ كانَ للمعاني نصيبٌ في هذا البيانِ، فقدْ أولاهُ الفرَّاءُ (ت:٢٠٧) عنايَتَه، ووضَّح منه جملةً كثيرةً، وإن كان البيانُ النحويُّ لأساليب العرب أكثر، ومن الأساليب التي بينها في الخطاب القرآنيِّ، ما يأتي:
* الخِطَابُ بِالْمُسْتَقْبَلِ لأَمْرٍ قَدْ مَضَى:
قالَ الفرَّاءُ (ت:٢٠٧): «وقولُه: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ}[البقرة: ٩١] يقول القائل: إنما (تقتلونَ) للمستقبلِ، فكيفَ قالَ:(من قبل)؟، ونحنُ لا نجيزُ في الكلامِ: أنَا أضربُك أمسِ، وذلكَ جائزٌ إذا أردتَ بـ (تفعلون) الماضيَ، ألا تَرى أنَّكَ تُعَنِّفُ الرجلَ بما سلفَ من فعلِه، فتقولُ: ويحكَ لِمَ تكذبْ؟ لم تُبَغِّضْ نفسَكَ إلى النَاسِ؟! ومثلُه قولُ اللهِ:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}[البقرة: ١٠٢]، ولَمْ يَقُلْ: ما تلتِ الشياطينُ. وذلكَ عربيٌّ كثيرٌ في الكلامِ، أنشدني بعضُ العربِ (١):
إذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ
وَلَمْ تَجدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهَا بُدَّا
فالجزاءُ للمستقبل، والولادة كلها قد مضت (٢)، وذلكَ أَنَّ المعنى معروفٌ.
ومثلُه في الكلامِ: إذا نظرتَ في سِيرِ عمر (٣) رحمه الله لم يسئْ، والمعنى؛ لم تجدْهُ أساءَ، فلمَّا كانَ أمرُ عمرَ لا يُشَكُّ في مُضِيِّه، لم يقعْ في الوهمِ أنه مستقبلٌ، فلذلكَ صلحَتْ {مِنْ قَبْلُ} مع قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ}، وليس الذين خوطبوا بالقتلِ همُ القَتَلَةُ، إنَّما قَتَلَ الأنبياءَ أسلافُهُم الذين مضوا، فتولَّوهم على ذلك ورضوا به فَنُسِبَ القتلُ إليهم» (٤).
(١) البيت منسوبٌ لزائدة بن صعصعة. ينظر: المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية (٢:١٧٥). (٢) يعني بالجزاء: قول الشاعر: إذا ما، والولادة في قول الشاعر: لم تلدني. (٣) أي: سيرة عمر. (٤) معاني القرآن للفراء (١:٦٠ - ٦١).