اللَّهِ لَا عِنْدِي وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ، فَأَمَّا الْعِلْمُ بِوَقْتِ مَجِيءِ الْعَذَابِ فَمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حَيْثُ بَقِيتُمْ مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِكُمْ، وَلَمْ تَهْتَدُوا بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، بَلِ اقْتَرَحْتُمْ عَلَيَّ مَا لَيْسَ مِنْ وَظَائِفِ الرُّسُلِ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ «بِمَا تَعِدُنَا» . وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: الضَّمِيرُ فِي رَأَوْهُ يَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: عارِضاً، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى السحاب، أي: فلما رأوا السحاب عارضا، فعارضا نُصِبَ عَلَى التَّكْرِيرِ، يَعْنِي التَّفْسِيرَ، وَسُمِّيَ السَّحَابُ عَارِضًا لِأَنَّهُ يَبْدُو فِي عَرْضِ السَّمَاءِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَارِضُ: السَّحَابُ يَعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا وَانْتِصَابُ عَارِضًا عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أَيْ:
مُتَوَجِّهًا نَحْوَ أَوْدِيَتِهِمْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ عَادٌ قَدْ حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ أَيَّامًا، فَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ سَحَابَةً سَوْدَاءَ، فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: الْمَعْتَبُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمُ استبشروا، وقالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا أَيْ: غَيْمٌ فِيهِ مَطَرٌ، وقوله: مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ صفة لعارض لِأَنَّ إِضَافَتَهُ لَفْظِيَّةٌ لَا مَعْنَوِيَّةٌ، فَصَحَّ وَصْفُ النَّكِرَةِ بِهِ، وَهَكَذَا مُمْطِرُنَا، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَجَابَ عَلَيْهِمْ هُودٌ، فَقَالَ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ يَعْنِي مِنَ الْعَذَابِ حَيْثُ قَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا وَقَوْلُهُ: رِيحٌ بَدَلٌ مِنْ مَا، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَجُمْلَةُ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ صفة لريح، وَالرِّيحُ الَّتِي عُذِّبُوا بِهَا نَشَأَتْ مِنْ ذَلِكَ السَّحَابِ الَّذِي رَأَوْهُ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها هذه الجملة صفة ثانية لريح، أَيْ: تُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ مَرَّتْ بِهِ مِنْ نُفُوسِ عَادٍ وَأَمْوَالِهَا، وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ، وَكَذَا الدَّمَارُ، وَقُرِئَ يَدْمُرُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَفْتُوحَةً وَسُكُونِ الدَّالِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَرَفْعِ كُلُّ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مِنْ دَمَرَ دَمَارًا. وَمَعْنَى بِأَمْرِ رَبِّها أَنَّ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ وقدره فأصبحوا لا ترى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ أَيْ: لَا تَرَى أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ أَوْ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلرُّؤْيَةِ إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ بَعْدَ ذَهَابِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَرى بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَنَصْبِ مَسَاكِنَهُمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ «مَسَاكِنُهُمْ» . قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْنَاهُ لَا يُرَى أَشْخَاصُهُمْ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَعْنَاهَا لَا يُرَى شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا هِنْدٌ، وَالْمَعْنَى: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا هِنْدٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَاءَتْهُمُ الرِّيحُ فَدَمَّرَتْهُمْ فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي هَؤُلَاءِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قَالَ الْمُبَرِّدُ:
«مَا» فِي قَوْلِهِ فِيمَا بمنزلة الّذي وإن بِمَنْزِلَةِ مَا: يَعْنِي النَّافِيَةَ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ مِنَ الْمَالِ وَطُولِ الْعُمْرِ وَقُوَّةِ الْأَبْدَانِ، وَقِيلَ: إِنْ زَائِدَةٌ، وتقديره: ولقد مكناهم فيما مكناهم فيه، وبه قال القتبي، ومثله قول الشاعر «١» :
فما إن طبّنا «٢» جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
(١) . هو فروة بن مسيك المرادي.(٢) . «الطب» : الشأن والعادة والشهوة والإرادة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute