يَقْطَعُهَا فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِحَرَكَتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ وَجُمْلَتُهَا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، يَنْزِلُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا مَنْزِلًا لَا يَتَخَطَّاهُ، فَيَبْدُو صَغِيرًا فِي أَوَّلِ مَنَازِلِهِ، ثُمَّ يَكْبُرُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَبْدُوَ كَامِلًا، وَإِذَا كَانَ في أواخر مَنَازِلِهِ رَقَّ وَاسْتَقْوَسَ، ثُمَّ يَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ إِذَا كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا، أَوْ لَيْلَةً إِذَا كَانَ نَاقِصًا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَطُولُ وَقَدْ جَمَعْنَا فِيهِ رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ عَلَيْنَا بَعْضُ الْأَعْلَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «١» ، وَفِي قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَالْأَوْلَى: رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى الْقَمَرِ وَحْدَهُ، كَمَا في قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ «٢» ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْمَنَافِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا التَّقْدِيرِ، فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ بِعَدَدِ السِّنِينَ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى، وَفِي الْعِلْمِ بِحِسَابِ الْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ بِذَلِكَ وَلَا عَرَفُوا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ. وَالسَّنَةُ تَتَحَصَّلُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَالشَّهْرُ يَتَحَصَّلُ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِنْ كَانَ كَامِلًا، وَالْيَوْمُ يَتَحَصَّلُ مِنْ سَاعَاتٍ مَعْلُومَةٍ هِيَ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ سَاعَةً لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَدْ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً فِي أَيَّامِ الِاسْتِوَاءِ، وَيَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي أَيَّامِ الزِّيَادَةِ وَأَيَّامِ النُّقْصَانِ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَالْقَمَرِيَّةِ مَعْرُوفٌ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَا خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاخْتِلَافَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ دُونَ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، وَمَعْنَى تَفْصِيلِ الْآيَاتِ تَبْيِينُهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: التَّكْوِينِيَّةُ أَوِ التَّنْزِيلِيَّةُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، وَتَدْخُلُ هَذِهِ الْآيَاتُ التَّكْوِينِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا فِي ذَلِكَ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ يُفَصِّلُ بالتحتية. وقرأ ابن السّميقع تُفَصَّلُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَلَعَلَّ وَجْهَ هَذَا الِاخْتِيَارِ أَنَّ قَبْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَبَعْدَهُ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمَنَافِعَ الْحَاصِلَةَ مِنِ اختلاف الليل والنهار وما خلق في السموات وَالْأَرْضِ مِنْ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَقَالَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أَيِ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَجْتَنِبُونَ مَعَاصِيَهُ وَخَصَّهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُمْعِنُونَ النَّظَرَ وَالتَّفَكُّرَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَذَرًا مِنْهُمْ عَنِ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَنَظَرًا لِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ فِي مَعَادِهِمْ. قَالَ الْقَفَّالُ: مَنْ تَدَبَّرَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا مَخْلُوقَةٌ لِبَقَاءِ النَّاسِ فِيهَا، وَأَنَّ خَالِقَهَا وَخَالِقَهُمْ مَا أَهْمَلَهُمْ بَلْ جَعَلَهَا لَهُمْ دَارَ عَمَلٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً قَالَ: لَمْ يَجْعَلِ الشَّمْسَ كَهَيْئَةِ الْقَمَرِ لِكَيْ يُعْرَفَ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ «٣» الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: وُجُوهُهُمَا إِلَى السّموات، وأقفيتهما إلى الأرض.
(١) . الجمعة: ١١.(٢) . يس: ٣٩.(٣) . الإسراء: ١٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute