لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١» ؟ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «٢» ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ فيقولون كنا نعبد عزيزا» .
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَجَزَّأُ، وَلَا لَهُ مَثِيلٌ فِي صِفَاتِهِ. ثُمَّ حَصَرَ الْإِلَهِيَّةَ فِيهِ، فَتَضْمَنَ ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ، فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالرَّحِيمِيَّةِ. ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَبَدَأَ بِذِكْرِ اخْتِرَاعِ الْأَفْلَاكِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالْجِرْمِ الْكَثِيفِ الْأَرْضِيِّ، وَمَا يَكُونُ فِيهِمَا مِنَ اخْتِلَافِ مَا بِهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ، مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ النَّاشِئَيْنِ عَمَّا أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَاخْتِلَافِ الْفُلْكِ ذاهبة وآئبة بِمَا يَنْفَعُ النَّاسُ النَّاشِئُ ذَلِكَ عَمَّا أُودِعَ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَمَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ، مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَتَشَقُّقِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَانْتِشَارِ الْعَالَمِ فِيهَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ فِي الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ، وَأَشْيَاءَ فِي الْجِرْمِ الْأَرْضِيِّ، ذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا هُوَ بَيْنَ الْجِرْمَيْنِ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ، إِذْ كَانَ بِذَلِكَ تَتِمُّ النِّعْمَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِصَلَاحِ الْعَالِمِ فِي مَنَافِعِهِمُ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ هِيَ آيَاتٌ لِلْعَاقِلِ، تَدُلُّهُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِصَاصِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، إِذْ مَنْ عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْلَمُونَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اقْتِدَارٌ عَلَى شيء مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَأَنَّهُمْ بَعْضُ مَا حَوَتْهُ الدَّائِرَةُ الْعُلْوِيَّةُ وَالدَّائِرَةُ السُّفْلِيَّةُ، وَأَنَّ نِسْبَتَهُمْ إِلَى مَنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الِافْتِقَارِ وَالتَّغَيُّرِ، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ إِلَّا عِنْدَ مَنْ سُلِبَ نُورَ الْعَقْلِ، وَغَشِيتْهُ ظُلُمَاتُ الْجَهْلِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى، بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، أَنَّ مِنَ النَّاسِ مُتَّخِذِي أَنْدَادٍ، وَأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَهُمْ وَيُحِبُّونَهُمْ مِثْلَ مَحِبَّةِ اللَّهِ، فَهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْمَحَبَّةِ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «٣» . ثُمَّ ذَكَرَ أن من الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ حُبًّا لِلَّهِ من هؤلاء لأصناهم. ثُمَّ خَاطَبَ مَنْ خَاطَبَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، حِينَ عَايَنُوا نَتِيجَةَ اتِّخَاذِهِمُ الْأَنْدَادَ، وَهُوَ الْعَذَابُ، الْحَالُّ بِهِمْ، أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَنْدَادَهُمْ لَا طَاقَةَ لَهَا وَلَا قُوَّةَ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْقُوَى وَالْقُدَرِ هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى تَبَرُّؤَ الْمَتْبُوعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَقْتَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ وَزَالَتِ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ التَّابِعِينَ تَمَنَّوُا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا حتى يؤمنوا ويتبرأوا مِنْ مَتْبُوعِيِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ التَّمَنِّي وَلَا يُمْكِنُ أن يقع، فهو تمني مستحيل، لأن الله
(١) سورة المائدة: ٥/ ١١٦.(٢) سورة التوبة: ٩/ ٣٠.(٣) سورة النحل: ١٦/ ١٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute