لَا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ.
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها: أَيِ اخْتَرَعْنَا الْإِيمَانَ فِيهَا، كَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً «١» ، ولَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «٢» ، ولَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً «٣» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَسْرِ، وَلَكِنَّا بَنَيْنَا الْأَمْرَ عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الِاضْطِرَارِ، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَحَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى أَهْلِ الْعَمَى دُونَ أَهْلِ الْبَصَرِ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا عَقَّبَهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ؟ فَجَعَلَ ذَوْقَ الْعَذَابِ نَتِيجَةَ فِعْلِهِمْ مِنْ نِسْيَانِ الْعَاقِبَةِ وَقِلَّةِ الْفِكْرِ فِيهَا، وَتَرْكِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا. وَالْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ: خِلَافُ التَّذَكُّرِ، يَعْنِي: أَنَّ الِانْهِمَاكَ فِي الشَّهَوَاتِ أَنْهَكَكُمْ وَأَلْهَاكُمْ عَنْ تَذَكُّرِ الْعَاقِبَةِ، وَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ نِسْيَانَهَا.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّا نَسِيناكُمْ عَلَى الْمُقَابَلَةِ: أَيْ جَازَيْنَاكُمْ جَزَاءَ نِسْيَانِكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، أَيْ تَرَكْتُمُ الْفِكْرَ فِي الْعَاقِبَةِ، فَتَرَكْنَاكُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ. انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَسْرِ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ هُدَاهَا إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا، لَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْهُ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ، فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ هِدَايَةُ الْكُلِّ إِلَيْهَا. قَالُوا: بَلِ الْوَاجِبُ هِدَايَةُ الْمَعْصُومِينَ فَأَمَّا مَنْ لَهُ ذَنْبٌ، فَجَائِزٌ هِدَايَتُهُ إِلَى النَّارِ جَزَاءً عَلَى أَفْعَالِهِ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ مَنْعٌ لِقَطْعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هَدَاهَا إِلَى الإيمان. انتهى. وهذا: صفة ليومكم، وَمَفْعُولُ فَذُوقُوا مَحْذُوفٌ، أَوْ مَفْعُولُ فَذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ بِسَبَبِ نِسْيَانِكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَهُوَ مَا أَنْتُمْ فيه من نكس الرؤوس وَالْخِزْيِ وَالْغَمِّ أَوْ ذُوقُوا الْعَذَابَ الْمُخَلَّدَ فِي جَهَنَّمَ. وَفِي اسْتِئْنَافِ قَوْلِهِ: إِنَّا نَسِيناكُمْ، وَبِنَاءِ الْفِعْلِ عَلَى إِنَّ وَاسْمِهَا تَشْدِيدٌ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ.
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا: أَثْنَى تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي وَصْفِهِمْ بِالصِّفَةِ الحسنى، من
(١) سورة الرعد: ١٣/ ٣١.(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٣٥.(٣) سورة هود: ١١/ ١١٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute