كُفْرُهُمْ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَلَذُّذُهُمْ بِمَا مُتِّعُوا بِهِ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا نَجَوْا مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الشِّدَّةِ، كَانَ ذَلِكَ جَالِبَ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَاعَةً لَهُ مُزْدَادَةً.
وَقِيلَ: اللَّامُ فِي: لِيَكْفُرُوا، وَلِيَتَمَتَّعُوا، لَامُ الْأَمْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ سَكَّنَ لَامَ وَلِيَتَمَتَّعُوا وَهُمُ: ابْنُ كَثِيرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَهَذَا الْأَمْرُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «١» .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكُفْرِ، وَبِأَنْ يَعْمَلَ الْعُصَاةُ ما شاؤا، وَهُوَ نَاهٍ عَنْ ذَلِكَ وَمُتَوَعِّدٌ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: هُوَ مجاز عن الخذلان والتحلية، وَأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ مُسْخِطٌ إلى غاية. انتهى. والتحلية وَالْخِذْلَانُ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، بِالتَّاءِ فِيهِمَا: أَيْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقَرَأَ أَبُو العالية: فيتمتعوا، بالياء، مبنيا لِلْمَفْعُولِ. وَمَنْ قَرَأَ: وَلْيَتَمَتَّعُوا، بِسُكُونِ اللَّامِ، وَكَانَ عِنْدَهُ اللَّامُ فِي: لِيَكْفُرُوا، لَامَ كَيْ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ كَلَامًا عَلَى كَلَامٍ، لَا عَاطِفَةٌ فعل عَلَى فِعْلٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، بِاللَّامِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِنِعَمِهِ، حَيْثُ أَسْكَنَهُمْ بَلْدَةً أَمِنُوا فِيهَا، لَا يَغْزُوهُمْ أَحَدٌ وَلَا يَسْتَلِبُ مِنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ قَلِيلِي الْعَدَدِ، قَارِّينَ فِي مَكَانٍ لَا زَرْعَ فِيهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعْمَةِ الَّتِي كَفَرُوهَا، وَهِيَ نِعْمَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ، ويَكْفُرُونَ، بِالْيَاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ: بِتَاءِ الْخِطَابِ فِيهِمَا. وَافْتِرَاؤُهُمُ الْكَذِبَ: زَعْمُهُمْ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا، وَتَكْذِيبُهُمْ بِالْحَقِّ: كُفْرُهُمْ بِالرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُ: إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَقَّفُوا فِي تَكْذِيبِهِ وَقْتَ مَجِيءِ الْحَقِّ لَهُمْ، بِخِلَافِ الْعَاقِلِ، فَإِنَّهُ إِذَا بَلَغَهُ خَبَرٌ، نَظَرَ فِيهِ وَفَكَّرَ حَتَّى يَبِينَ لَهُ أَصِدْقٌ هُوَ أَمْ كذب. وأليس تَقْرِيرٌ لِمُقَامِهِمْ فِي جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ ركب المطايا ولِلْكافِرِينَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ: أَيْ مَثْوَاهُمْ. وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا: أَطْلَقَ الْمُجَاهَدَةَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِمُتَعَلِّقٍ، لِيَتَنَاوَلَ الْمُجَاهَدَةَ فِي النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَالشَّيْطَانِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، فَالْمَقْصُودُ بِهَا الْمِثَالُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
جَاهَدُوا أَهْوَاءَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَشُكْرِ آلَائِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ. لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا:
لَنَزِيدَنَّهُمْ هِدَايَةً إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ «٢» . وَقَالَ السُّدِّيُّ: جَاهَدُوا فِينَا بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا إلى الجنة.
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٤٠.(٢) سورة محمد: ٤٧/ ١٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute