الشِّمَالِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الدُّنْيَا، فَهَذَا يَعُمُّ أَلْفَاظَ الْآيَةِ. وَفِيهِ تَجَوُّزٌ وَاتِّسَاعٌ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ مِنْ غُدْوَةِ الزَّوَالِ، وَيَكُونُ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْمَغِيبِ عَنِ الشِّمَالِ، وَهُوَ قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، فَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ فِيمَا قَدَّرَهُ مُسْتَقْبِلَ الْجَنُوبِ انْتَهَى. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْيَمِينُ بِمَعْنَى الْأَيْمَانِ، فَجَعَلَهُ وَهُوَ مُفْرَدٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَطَابَقَ الشَّمَائِلَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «١» يُرِيدُ الْإِدْبَارَ. وَقَالَ الفراء: كأنه إذا وجد ذَهَبَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الظِّلَالِ، وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، لفظه وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، فَعَبَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «٢» وَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «٣» وَقِيلَ: إِذَا فَسَّرْنَا الْيَمِينَ بِالْمَشْرِقِ، كَانَتِ النُّقْطَةُ الَّتِي هِيَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَكَانَتِ الْيَمِينُ وَاحِدَةً. وَأَمَّا الشَّمَائِلُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِرَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الظِّلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّمَائِلِ الشِّمَالُ وَالْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ، لِأَنَّ الظِّلَّ يَفِيءُ من الجهات كلها فبدىء بِالْيَمِينِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ التَّفَيُّؤِ مِنْهَا، أَوْ تَيَمُّنًا بِذِكْرِهَا، ثُمَّ جَمَعَ الْبَاقِيَ عَلَى لَفْظِ الشِّمَالِ لِمَا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ مِنَ التَّضَادِّ، وَتَنَزُّلُ الْقُدَّامُ وَالْخَلْفُ مَنْزِلَةَ الشِّمَالِ لِمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ مِنَ الْخِلَافِ. وَقِيلَ: وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ، لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ عَنِ الْيَمِينِ، ثُمَّ يَنْقَبِضُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، فَصَدَقَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَفْظَةُ الشِّمَالِ، فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْحَالَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْيَمِينَ أَوَّلُ وَقْعَةٍ لِلظِّلِّ بَعْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ الْآخِرُ إِلَى الْغُرُوبِ هِيَ عَنِ الشَّمَائِلِ، وَأَفْرَدَ الْيَمِينَ فَتَخْلِيطٌ مِنَ الْقَوْلِ وَمُبْطَلٌ مِنْ جِهَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا صَلَّيْتَ الْفَجْرَ كَانَ مَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا ظِلًّا، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّمْسَ دَلِيلًا فَقَبَضَ إِلَيْهِ الظِّلَّ، فَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ دَوْرَةَ الشَّمْسِ بِالظِّلِّ عَنْ يَمِينِ مُسْتَقْبَلِ الْجَنُوبِ، ثُمَّ يَبْدَأُ الانحراف فهو عن الشَّمَائِلِ، لِأَنَّهُ حَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ وَظِلَالٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَهِيَ شَمَائِلُ كَثِيرَةٌ، فَكَانَ الظِّلُّ عَنِ الْيَمِينِ مُتَّصِلًا وَاحِدًا عَامًّا لِكُلِّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَقَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْكُتَامِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّائِغِ: أَفْرَدَ وَجَمَعَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَايَتَيْنِ، لِأَنَّ ظِلَّ الْغَدَاةِ يَضْمَحِلُّ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الْيَسِيرُ فَكَأَنَّهُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ بِالْعَشِيِّ عَلَى الْعَكْسِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَلُحِظَتِ الْغَايَتَانِ فِي الْآيَةِ: هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ
(١) سورة القمر: ٥٤/ ٤٥.(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١.(٣) سورة البقرة: ٢/ ٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute