عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْقَطْعِ، وَمَا لَا فَمَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يُثْبِتِ الْبَصْرِيُّونَ النَّصْبَ عَلَى الْقَطْعِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ مَذْكُورٌ فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ، وَالْمُخْتَارُ انْتِصَابُ مثل عَلَى التَّمْيِيزِ، وَجَاءَ عَلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُشِيرَ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ، فَجَاءَ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ مُؤَكِّدًا لِلِاسْمِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ.
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً: جُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ جَارِيَتَانِ مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِلْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ الْمُصَدَّرَتَيْنِ بِإِمَّا، وَوَصَفَ تَعَالَى الْعَالِمِينَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَالسَّائِلِينَ عَنْهُ سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «١» ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «٢» وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ، فَالْمُهْتَدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ كَثِيرٌ، وَإِذَا وُصِفُوا بِالْقِلَّةِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الضَّلَالِ، أَوْ تَكُونُ الْكَثْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْقِلَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ، فَسُمُّوا كَثِيرًا ذَهَابًا إِلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّوا وَإِنْ كَثُرُوا
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً في موضع الصفة لمثل، وَكَانَ الْمَعْنَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُفَرِّقُ بِهِ النَّاسَ إِلَى ضَلَالٍ وَإِلَى هِدَايَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَهَذَا الْوَجْهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْهُ هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ مَا، أَيُّ مَثَلٍ: كَانَ بَعُوضَةً، أَوْ مَا فَوْقَهَا، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا سَأَلُوا سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ وَلَيْسُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، إِلَّا إِنْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيُمْكُنُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ كَمَا أَنَّ إِسْنَادَ الْهِدَايَةِ كَذَلِكَ، فَهُوَ خَالِقُ الضَّلَالِ وَالْهِدَايَةِ، وقد تؤول هُنَا الْإِضْلَالُ بِالْإِضْلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَالْإِضْلَالُ عَنِ الدِّينِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى تَقْبِيحِ الدِّينِ وَتَرْكِهِ، وَهُوَ الْإِضْلَالُ الْمُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَالْإِضْلَالُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ يَقُولُ: إِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ إِلَى السَّبَبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ فَضَلَّ بِهِ قَوْمٌ وَاهْتَدَى بِهِ قَوْمٌ تَسَبَّبَ لِضَلَالِهِمْ وَهُدَاهُمْ.
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ١٣.(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢٢٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute