وهذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «١» وَالْأَوْلَى اعْتِقَادُ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْنِيَةِ الْعُمُومُ فِي الزناة. وقرىء وَاللَّذَأَنِّ بِالْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ لَمَّا شَدَّدَ النُّونَ الْتَقَى سَاكِنَانِ، فَفَرَّ الْقَارِئُ مِنِ الْتِقَائِهِمَا إِلَى إِبْدَالِ الْأَلِفِ هَمْزَةً تَشْبِيهًا لَهَا بِأَلِفِ فَاعِلٍ الْمُدْغَمِ عَيْنُهُ فِي لامه، كما قرىء: وَلَا الضَّالِّينَ «٢» وَلا جَانٌّ «٣» وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ فِي الْفَاتِحَةِ.
فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أَيْ: إِنْ تَابَا عَنِ الْفَاحِشَةِ وَأَصْلَحَا عَمَلَهُمَا فَاتْرُكُوا أَذَاهُمَا. وَالْمَعْنَى: أَعْرِضُوا عَنْ أَذَاهُمَا. وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قُوَّةِ اللَّفْظِ غَضٌّ مِنَ الزُّنَاةِ وَإِنْ تَابُوا، لِأَنَّ تَرْكَهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِعْرَاضٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «٤» وَلَيْسَ هَذَا الْإِعْرَاضُ فِي الْآيَتَيْنِ أَمْرًا بِهِجْرَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُتَارَكَةُ مُعْرِضٍ، وَفِي ذَلِكَ احْتِقَارٌ لَهُمْ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً أَيْ رَجَّاعًا بِعِبَادِهِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، رَحِيمًا لَهُمْ بِتَرْكِ أَذَاهُمْ إِذَا تَابُوا.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِنَّمَا وَفِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْحَصْرِ، أَهْوَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ، أَوِ الِاسْتِعْمَالِ؟ أَمْ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَيْهِ؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا قَبُولُ التَّوْبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، فَتَكُونُ عَلَى بَاقِيَةً عَلَى بَابِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي إِنَّمَا الْقَبُولُ وَالْغُفْرَانُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، فَأَمَّا مَا ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ عَلَى نَفْسِهِ كَتَخْلِيدِ الْكُفَّارِ وَقَبُولِ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ بِشَرْطِهِ فَذَلِكَ وَاقِعٌ قَطْعًا، وَأَمَّا قَبُولُ التَّوْبَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ عَقْلًا وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَتَظَافَرَتْ ظَوَاهِرُ الْآيِ وَالسُّنَّةِ عَلَى قَبُولِ اللَّهِ التَّوْبَةَ، وَأَفَادَتِ الْقَطْعَ بِذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ: إِلَى أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ إِنَّمَا تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ لا القطع بقبول
(١) سورة الحج: ٢٢/ ١٩.(٢) سورة الفاتحة: ١/ ٧. [.....](٣) سورة الرحمن: ٥٥/ ٣٩.(٤) سورة الأعراف: ٧/ ١٩٩.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute