بِإخْرَاجِهِ فَأَمَرَ أبُوهُ بِبنَاءِ قُبَّةٍ عَالِيَةٍ تُشْرِفُ عَلَى وَادِي السِّبَاع بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَصْرَةِ فَرْسَخَانِ وَمِيْلٌ. فَقَالَ المُعْتَصِمُ: فَرْسَخَانِ وَمِيْلٌ حِسَابٌ دَقِيْقٌ! قُلتُ: كَذَا زَعَمَ جَرْيِرٌ حَيْثُ يَقُوْلُ (١):
لَو كُنْتَ حُرًّا بابنِ قَبْرِ مُجَاشِعٍ ... شَيَّعْتُ قَبْرَكَ فَرْسَخَيْنِ وَمِيْلا
قَالَ ابن المُعَذَّلِ: فَجَلَسْتُ يَوْمًا مَعَهُ أُفَاوِضهُ الأحَادِيْثَ وَهُوَ كَالسَّاهِي يُدِيْمُ النَّظَرَ إِلَى سَطْحِ دَارٍ كَانَتْ تَقْرُبُ مِنَ القُبَّةِ وَإِذَا بِجَارِيَةٍ قَدْ أشْرَفَتْ مِنْ وَرَاءِ سُتْرَةٍ لَمْ أرَ مِثْلهَا حُسْنًا وَشَكْلًا فَأقْبَلَ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَالجارِيَةُ تَنْظرُ إلَيْهِ وَأَنَا أُوْهِمُهُ أنِّي لَسْتُ أرَاهُمَا فَأَقَمْتُ نَوْبَتِي وَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا عَادَتِ النَّوْبَةُ إلَيَّ وَجَدْتُ الفَتَى عَلِيْلًا وَقَدْ قَامَتْ عَلَى أبِيْهِ القِيَامَةُ وَأحْضَرَ الأطِبَّاءَ وَالأدْوِيَةَ فَخَلَوْتُ بِأبيْهِ وَسَكَّنتهُ وَقُلْتُ عَلَيَّ عِلاجُهُ فَدَعْنِي وَإيَّاهُ وَاتْرُكْنِي مَعَهُ فَفَعَلَ فَأقَمْتُ عِنْدَهُ تِسْعَةَ أَيَّامٍ وَالفَتَى تَزْدَادُ عِلَّتُهُ وَهُوَ يُرَاقِبُ المَوْضِعَ وَلَا يَرَى الشَّخْصَ فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةُ اليَومِ العَاشِرِ تَرَاءتْ لَهُ الجَّارِيَهُ كَأنَّها الشَّمْسُ المُضِيْئَةُ وَنَظَرَ الفَتَى إلَيْهَا فَتَجَلَّتْ هُمُومُهُ وَانْطَلَقَ لِسَانَهُ وَأنْشَأ يَقُوْلُ: حَيِّ طَيْفًا مِنَ الأحِبَّةِ زَارَا. إِلَى قَوْلِهِ (٢):
قُلْتُ مَا بَالِنَا جُفِيْنَا وَكُنَّا ... قَبْلَ ذَلِكَ الأسْمَاعَ وَالأبْصَارَا
قَالَ فَأجَابَتهُ الجَّارِيَةُ تَقُولُ:
حِبِّ أَنَا كَمَا عَهِدْتَ وَلَكِنْ ... شَغَل الحَلَى أهْلُهُ أنْ يُعَارَا
قَالَ لِي المُعْتَصِمُ: مَا أرَاكَ صَنَعْتَ شَيْئًا بَلْ زِدْتَنَا حِيْرَةً إِلَى حِيْرَةٍ. فَقُلْتُ: يا أمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ قَدْ أوْضَحْتُ مَا أرَدْتَهُ فَتَأمَّلهُ وَقُلْ لِي إِذَا كَانَ عِنْدَكَ حَلْيٌ تُمْكِنُ إعَارَتُهُ ثُمَّ انْكَسَرَ أتَتَمَكَّنُ مِنْ إعَارَتِهِ؟ قَالَ: لا. قُلْتُ: هَذِهِ الجَّارِيَةُ تُخْبِرُ أَنَّهَا كَانَتْ طَامِثًا فَنَزَّهَتْ نَفْسَهَا وَنَزَّهَتِ الفَتَى أنْ تُكَلِّمَهُ إِلَى أنْ طَهَرَتْ. قَالَ: أحْسَنْتَ أتَيْتَ بِهَا غَرَّاءَ نَقِيَّةً. قُلْتُ: يا أمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ إِنَّ أهْلَ الظُّرْفِ وَالكَيْسِ يُسَمُّونَهُ كَسْرَ الحُلِيِّ. قَالَ:
(١) البيت في ديوان جرير: ٤٥٤.(٢) البيتان في ديوان عمر بن أبي ربيعة: ٢٠٩.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute