إنه لن ينساهم أبدا مهما أنجدوا أو غاروا ومهما شرقوا أو غربوا، ومهما أنصفوه أو ظلموه، لقد فارقوه وصورهم مائلة فى خياله لا تبرحه، وحقا تركوا المنازل والديار، ولكنهم تركوا وراءهم منزلا عظيما، لا تزايله صورهم، إنه قلبه الملتاع المطوى على حبهم. وينظر إلى الديار والمنازل حوله بمصر فيظنها فلوات ومفازات، فقد غادروها قفرا يبايا خرابا إلى ديار كانت خالية موحشة فأصبحت بهم أمصارا، وليس من جار له فى قفره الخرب إلا جاران: تذكارهم ودموعه المنهلة التى لا ترقأ أبدا، وقد أظلمت الدنيا فى عينيه. حتى غدا النهار مظلما داجيا، فقد أخذوا معهم كل شئ حتى النهار وضياءه. وله أبيات غزلية خفيفة من مثل قوله (٣):
لم يهن قطّ علينا بعدكم ... مثلما هان عليكم بعدنا
لم تبالوا إذ رحلتم غدوة ... أىّ شئ صنع الدهر بنا
وقوله (٤):
أحبابنا ما بالكم ... فينا من الأعداء أعدى
وحياة ودّكم وتر ... بة وصلكم ما خنت عهدا
والرقة واضحة فى الأبيات، وواضح فى البيت الأخير الظرف المصرى، فالوصل مات وقبر والمهذب يحلف-كما يحلف المصريون حتى اليوم بأعزائهم وتربهم أو قبورهم-بتربة الوصل العزيز وما سكب عليه من الدموع الحارة.