عاصرته، بل إننا نحتاج إلى تقييد هذا الكلام، فقد جمع من أشعار القدماء والمحدثين ديوان حماسة ضخما. مما يؤكد أنه عكف على دراسة هذه الأشعار حتى استطاع أن يستخلص منها هذا الديوان، وكأننا نعدم فى العصر الشاعر الذى لا يطلب الثقافة الفنية، بل الثقافة العامة، وكل من يتابع البحترى فى شعره يلاحظ أنه حوى لنفسه أطرافا من تلك الثقافة أتاحت له أن يصبح من ذوى الملكات الخصبة، وتثقفه بأشعار أستاذه أبى تمام ذائع مشهور، وهى نفسها تحبب إلى من يديم النظر فيها أن يأخذ بحظ أو حظوظ من الثقافات المعاصرة، وصوّر بنفسه مدى تنوع هذه الثقافات وتنوع الكلام الذى يحملها فى قوله لبعض ممدوحيه (١):
ولقد جمعت فضائلا ما استجمعت ... يفنى الزمان وذكرها لم يهرم
مثل الكلام تفرّقت أنواعه ... فرقا وتجمعها حروف المعجم
وحقّا لم يكن البحترى صاحب تعمق فى معانى الشعر مثل أبى تمام أو مثل معاصره ابن الرومى، ولكن كانت ملكته خصبة، وكانت ما تزال تمده بخواطر لا تنفد، ونستطيع أن نلاحظ ذلك فى سينيته التى وصف فيها إيوان كسرى وصفا لم يسبق إليه، كما نستطيع أن نلاحظه فى تنوع اعتذاراته للفتح بن خاقان تنوعا خلب معاصريه، كما خلبهم عنده إبداعه فى وصفه لخيال المحبوبة أو طيفها حين يلم به فى رؤاه واحلاءه، وتغنى الشعراء بالخيال قديم منذ أوائل العصر الجاهلى، ولكن الجديد عند البحترى أنه استطاع بملكته العباسية الخصبة التى تقتدر على التوليد والإتيان بالصور المبتكرة والإكثار منها أن يستولى على إعجاب الأسلاف بمثل قوله (٢):