قَالُوا: لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ يَفْتَقِرُ إِلَى الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَهَذَا خَاصٌّ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْعِيَّاتِ، بِخِلَافِ الْحِسِّيَّاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجْرَى الْعَادَةَ فِيهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ يُجْرِ الْعَادَةَ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، فَلَا تُلْحَقُ بِالْحِسِّيَّاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ تَخْصِيصُ النَّفْيِ بِالْأَمْرِ الوجودي.
ومنهم من نقل عن الْخِلَافُ مُطْلَقًا.
قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْخِلَافِ فِي الْوُجُودِيِّ وَالْعَدَمِيِّ جَمِيعًا، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ؛ إِذْ تَفَارِيعُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حُجَّةٌ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْمَنْقُولُ فِي كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، وَلَكِنْ يَصْلُحُ لِلرَّفْعِ وَالدَّفْعِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ حُجَّةٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ، وَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ "وَذَلِكَ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كان الظاهر بقاؤها، صَلُحَ حُجَّةً لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ، فَلَا يُوَرَّثُ مَالُهُ، وَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَرِثُ عَنْ أَقَارِبِهِ"*
الثَّالِثُ:
أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل، فإنه "لم"**كلف إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا سِوَاهُ جَازَ لَهُ التَّمَسُّكُ "بِهِ"***وَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إِذَا تَنَاظَرُوا لَمْ يَنْفَعِ الْمُجْتَهِدَ قَوْلُهُ لَمْ أَجِدْ دَلِيلًا عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ.
الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ لَا لِلرَّفْعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ إِلْكِيَا: وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا "بِأَنَّ"**** اسْتِصْحَابَ الْحَالِ صَالِحٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، إِحَالَةً عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ، لَا لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا١ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ.
الْخَامِسُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِهِ لَا غَيْرَ، نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِهِ.
السَّادِسُ:
أَنَّ الْمُسْتَصْحِبَ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ سِوَى نَفْيِ مَا نَفَاهُ، صح ذلك٢، وإن كان
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": لا.
*** بين قوسين ساقط من "أ".
**** ما بين قوسين ساقط من "أ".