وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الِاشْتِرَاكِ (١) : فَأَوَّلُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَالصِّيَغَ قَدْ تُطْلَقُ لِلْعُمُومِ تَارَةً وَلِلْخُصُوصِ تَارَةً، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَحَقِيقَةُ الْخُصُوصِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْعُمُومِ، فَكَانَ اللَّفْظُ الْمُتَّحِدُ الدَّالُّ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً مُشْتَرِكًا كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَحْسُنُ عِنْدَ إِطْلَاقِ هَذِهِ الصِّيَغِ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ مُطْلَقِهَا أَنَّكَ أَرَدْتَ الْبَعْضَ أَوِ الْكُلَّ، وَحُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلُ الِاشْتِرَاكِ (٢) ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ.
وَأَمَّا شُبَهُ مَنْ قَالَ بِالتَّعْمِيمِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّكَالِيفِ بِأَوَامِرَ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَبِنَوَاهٍ عَامَّةٍ لَهُمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ التَّكْلِيفُ عَامًّا، أَوْ كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَكْلِيفٍ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَجُوزُ وُرُودُهُ بِالْمَجْهُولِ، وَلَا بَيَانَ لَهُ أَصْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} ، {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرً} بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَرَدَ بِالْمُجْمَلِ كَقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، وَقَوْلِهِ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بَيَانٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ مُتَأَخِّرٍ أَوْ مُقَارَنٍ.
وَالْجَوَابُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ عَنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الشُّبَهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، فَعَلَيْكَ بِنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَرْبَابُ الْعُمُومِ مِنَ الْآيَاتِ، أَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْأَهْلِ قَدْ تُطْلَقُ تَارَةً لِلْعُمُومِ وَتَارَةً لِلْخُصُوصِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جَمَعَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْمَعِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالْمَرْضَى (٣) .
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ (الْقَوْلُ)
(١) الِاشْتِرَاكُ - أَيِ اللَّفْظِيُّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ(٢) الِاشْتِرَاكُ - أَيِ اللَّفْظِيُّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ(٣) إِنَّمَا أُرِيدَ بِأَهْلِ الْبَلَدِ الْخُصُوصُ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِعَدَمِ دَعْوَةِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَرْضَى، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ إِلَى مَجْلِسِ السُّلْطَانِ، وَقَضَاءُ الْعَادَةِ بِعَدَمِ حُضُورِهِمْ فِيهِ لِقِيَامِ الْعُذْرِ فِي الْمَرِيضِ، وَتَرَفُّعِ مَجْلِسِهِ عَنْ حُضُورِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِرَادَةِ الْخُصُوصِ مِنْ صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَلَوْ قِيلَ: أَكْرَمَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الْبَلَدِ لَدَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي عُمُومِ الصِّيغَةِ وَشَمَلَهُمْ كَرَمُهُ إِمَّا مُبَاشَرَةً وَإِمَّا عَنْ طَرِيقِ أَوْلِيَاءِ أُمُورِهِمْ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ ابْنِهِ فَإِنَّهُ فَهِمَ مِنْ عُمُومِ الصِّيغَةِ نَجَاةَ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ وَتَوَجَّهَ اللَّوْمُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَأَنَّ النَّجَاةَ مَعْقُودَةٌ بِالْإِيمَانِ دُونَ قَرَابَةِ النَّسَبِ، وَأَنَّ الْهَلَاكَ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ نَسَبًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute