[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَاجِبَةِ الِاتِّبَاعِ فَهَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَاجِبَةِ الِاتِّبَاعِ فَهَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ؟
أَمَّا الْعَامِّيُّ فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَيَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ إِنْ جَوَّزْنَا تَقْلِيدَ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ مِنَ التَّابِعِينَ لِلْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ وَجَوَّزَهُ فِي الْقَدِيمِ، غَيْرَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ انْتِشَارَ مَذْهَبِهِ تَارَةً وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ تَارَةً.
وَالْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِمَا يَأْتِي فِي قَاعِدَةِ الِاجْتِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (١) النَّوْعُ الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ حَتَّى نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ.
وَلَا بُدَّ قَبْلَ النَّظَرِ فِي الْحِجَاجِ مِنْ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِيَكُونَ التَّوَارُدُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَزٍّ وَاحِدٍ فَنَقُولُ:
الْخِلَافُ لَيْسَ فِي نَفْسِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ جَوَازًا وَامْتِنَاعًا لِوُرُودِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِطْلَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ» ". (٢)
(١) سَيَذْكُرُ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ تِسْعَةَ أَقْوَالٍ فِي تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ لِمُجْتَهِدٍ مَعَ تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا بَعْضٌ مِمَّا سَيَجِيءُ هُنَاكَ. انْظُرْ ص ٢٦١ ج١٩ مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَةَ.
(٢) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ أَنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابًا فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ قَبِيحٌ. قَالَ الْعَجْلُونِيُّ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ: وَهُوَ مَوْقُوفٌ حَسَنٌ، ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ سَاقِطٍ، وَالْأَصَحُّ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ.