للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يَقْتَضِي حُصُولَ شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَمْسُوحَةِ بِهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَفَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ; لِأَنَّ "مِنْ" قَدْ تَكُونُ لِبَدْءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِك: خَرَجْت مِنْ الْكُوفَةِ, وَهَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ; فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا: لِيَكُنْ ابْتِدَاءُ الْأَخْذِ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ بِلَا فَاصِلٍ يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ النِّيَّةِ وَيَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِهَا, وَهُوَ كَقَوْلِك: تَوَضَّأَ مِنْ النَّهْرِ; يَعْنِي أَنَّ ابْتِدَاءَ أَخْذِهِ مِنْ النَّهْرِ إلَى أَنْ اتَّصَلَ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ مِنْ النَّهْرِ فِي إنَاءٍ وَتَوَضَّأَ مِنْهُ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ النَّهْرِ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يَعْنِي مِنْ بَعْضِهِ, وَأَفَادَ بِهِ أَنَّ أَيَّ بَعْضٍ مِنْهُ مَسَحْتُمْ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ.

وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَاللُّؤْلُؤُ وَنَحْوُهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هِيَ جَوَاهِرُ مَوْدُوعَةٌ فِيهَا, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سئل عَنْ الرِّكَازِ: "هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ اللَّذَانِ خَلَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ". وَاللُّؤْلُؤُ مِنْ الصَّدَفِ, وَالصَّدَفُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ; وَأَمَّا الرَّمَادُ فَهُوَ مِنْ الْخَشَبِ وَنَحْوِهِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ وَلَا مِنْ جَوْهَرِهَا. وَأَمَّا الثَّلْجُ وَالْحَشِيشُ فَهُمَا كَالدَّقِيقِ وَالْحُبُوبِ ونحوها, فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست مِنْ الصَّعِيدِ, وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الْأَبْدَالِ إلَى غَيْرِهَا إلَّا بِتَوْقِيفٍ, فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الصَّعِيدَ بَدَلًا مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ بَدَلٍ مِنْهُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ, وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَضْرِبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ فَيَتَيَمَّمُ بِهِ, وَلَجَازَ التَّيَمُّمُ بِالْقُطْنِ وَالْحُبُوبِ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا قَالَ: وَتُرَابُهَا لَنَا طَهُورٌ" وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِهِ بِالثَّلْجِ وَالْحَشِيشِ إذَا وَصَلَ إلَى الْأَرْضِ, فَلَوْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لَجَازَ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بِالصَّعِيدِ بَدَلٌ فَلَا يُنْتَقَلُ إلَى بَدَلٍ غَيْرِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْأَرْضِ فَهُوَ كَالزَّرْنِيخِ وَالنُّورَةِ وَالْمَغْرَةِ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ. قِيلَ لَهُ: الزَّرْنِيخُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَرْضِ, وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ وَعَدَمِهِ, وَلَيْسَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ حَائِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا الْأَرْضُ فِي الْأَغْلَبِ حَائِلَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ, فَكَيْفَ يُشْبِهُهُ الثَّلْجُ وَالْحَشِيشُ وَإِنْ تَيَمَّمَ بِغُبَارِ ثَوْبٍ أَوْ لِبْدٍ وَقَدْ نَفَضَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ, وَإِنَّمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْغُبَارَ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْأَرْضِ, وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ فِي الثِّيَابِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ, كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ فِي إنَاءٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ مَا عُصِرَ مِنْ ثَوْبٍ مَبْلُولٍ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى أَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى تُرَابًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِأَرْضٍ لَا تُرَابَ عَلَيْهَا, وَجَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ عَلَى أَصْلِهِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>