للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ لِأَنَّ الْوُجُودَ هُوَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِهِ بِلَا ضَرَرٍ وَلَا مَشَقَّةٍ, لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ, فَعَدَمُ الْمَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ شَرْطٌ وَخَوْفُ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ أَيْضًا شَرْطٌ, وَأَنْتَ فَلَمْ تَلْجَأْ فِي اعْتِبَارِك الْوَقْتَ لَا إلَى آيَةٍ وَلَا إلَى أَثَرٍ, بَلْ الْكِتَابُ وَالْأَثَرُ يَقْضِيَانِ بِبُطْلَانِ قَوْلِك.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا جَازَتْ الصَّلَاةُ فِي حَالِ الْخَوْفِ مَعَ الِاخْتِلَافِ وَالْمَشْيِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَرَاكِبًا لِأَجْلِ إدْرَاكِ الْوَقْتِ, دَلَّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْوَقْتِ فِي جَوَازِهَا بِالتَّيَمُّمِ إذَا خَافَ فَوْتَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أُبِيحَتْ صَلَاةُ الْخَائِفِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَجْلِ الْخَوْفِ لَا لِلْوَقْتِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَالْخَوْفُ مَوْجُودٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِانْصِرَافِ الْعَدُوِّ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا أُبِيحَتْ لِلْخَوْفِ لَا لِيُدْرِكَ الْوَقْتَ, وَالتَّيَمُّمُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ لِعَدَمِ الْمَاءِ. فَنَظِيرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ مِنْ التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مَعْدُومًا فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ, فَأَمَّا حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ زَوَالِ الْخَوْفِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ إلَّا عَلَى هَيْئَتِهَا فِي حَالِ الْأَمْنِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِمَنْزِلَةِ الْإِفْطَارِ لِلْمُسَافِرِ وَبِمَنْزِلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي أَنَّهَا رُخْصَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِحَالٍ لَا لِخَوْفِ فَوَاتِ الْوَقْتِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنْ فَاتَ وَقْتُهُ بِاشْتِغَالِهِ بِالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ لَهَا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا" فَأَخْبَرَ أَنَّ وَقْتَ الذِّكْرِ مَعَ فَوَاتِهَا وَقْتٌ لَهَا كَمَا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَقْتًا لَهَا, فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا مَعَ فَوَاتِهَا عَنْ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَرْكُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ لِخَوْفِ فَوَاتِهَا مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ. وَقَدْ وَافَقَنَا مَالِكٌ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَائِتَةِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْوَقْتِ وَأَنَّ الْفَائِتَةَ أَخَصُّ بِالْوَقْتِ مِنْ الَّتِي هِيَ فِي وَقْتِهَا, حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِصَلَاةٍ لِوَقْتٍ قَبْلَهَا لَمْ تُجْزِهِ, فَلَوْ كَانَ خَوْفُ فَوْتِ الْوَقْتِ مُبِيحًا لَهُ التَّيَمُّمَ لَوَجَبَ أَنْ يُبَاحَ لَهُ التَّيَمُّمُ بَعْدَ الْفَوَاتِ أَيْضًا; لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ يَأْتِي بَعْدَ الْفَوَاتِ هُوَ وَقْتٌ لَهَا لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ, فَيَلْزَمُ مَالِكًا أَنْ يُجِيزَ لِمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمٍ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْوُضُوءِ يُوجِبُ تَأْخِيرَهَا عَنْ الْوَقْتِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهَا فِيهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْ تَأْخِيرِهَا عَنْهُ. وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ فِعْلُهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ خَوْفِ فَوَاتِ وَقْتِهَا الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِيهِ إذَا اشْتَغَلَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ, صَحَّ أَنَّ الْوَقْتَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ إلَى التَّيَمُّمِ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ "إنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ بَعْدَ الْوَقْتِ" فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ, فَلَا مَعْنَى لِأَمْرِهِ بِهَا وَتَأْخِيرُ الْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ تَقْدِيمُهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>