الَّذِي فِي الْمَفَازَةِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَاءٌ وَلَمْ يَطْمَعْ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ, فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا فَالطَّلَبُ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَكْلِيفُهُ طَلَبَ مَا هُوَ وَاجِدُهُ, وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ جَازَ تَيَمُّمُهُ بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ".
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمَ الْمَاءِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يُجْزِيَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ وُجُودَ شَرْطِهِ, كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ حُضُورَ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ فِعْلُهَا إلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْيَقِينِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ. قِيلَ لَهُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ, وَذَلِكَ يَقِينٌ عِنْدَهُ; وَإِنَّمَا لَا يُعْلَمُ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهِ, وَهَلْ يَكُونُ مَوْجُودًا إنْ طَلَبَ أَمْ لَا, فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَزُولَ عَنْ الْيَقِينِ الْأَوَّلِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَيَشُكُّ فِيهِ. وَوَقْتُ الصَّلَاةِ أَيْضًا كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ, فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ فِعْلُهَا بِالشَّكِّ حَتَّى يَتَيَقَّنَ وُجُودَهُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ فِي بَابِ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ الَّذِي كَانَ الْأَصْلَ.
فَإِنْ قيل: قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَالْغُسْلُ أَبَدًا وَاجِبٌ وَعَلَيْهِ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ كَيْفَ أَمْكَنَ, فَإِذَا كَانَ قَدْ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِالطَّلَبِ فَذَلِكَ فَرْضُهُ. قِيلَ لَهُ: الَّذِي قَالَ: {فَاغْسِلُوا} هُوَ الَّذِي قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَوُجُوبُ الْغُسْلِ مُضَمَّنٌ بِوُجُودِ الْمَاءِ, وَجَوَازُ التَّيَمُّمِ مُضَمَّنٌ بِعَدَمِهِ, وَهُوَ عَادِمٌ لَهُ فِي الْحَالِ لَا مَحَالَةَ; وَإِنَّمَا يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا عِنْدَ الطَّلَبِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْكُ مَا حَصَلَ مِنْ شَرْطِ إبَاحَةِ التَّيَمُّمِ لِمَا عَسَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ. وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُخَالِفُ كَانَ يَلْزَمُ لَوْ طَمِعَ فِي الْمَاءِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُجُودُهُ وَأَخْبَرَهُ بِهِ مُخْبِرٌ, فَأَمَّا مَعَ فَقْدِ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ شَرْطُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ, فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إسْقَاطُهُ وَإِيجَابُ اعْتِبَارِ مَعْنًى غَيْرَهُ, وَإِنَّمَا قَدَّرَ أَصْحَابُنَا أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ مِنْ قِبَلِ لُزُومِ اسْتِعْمَالِهِ إذَا عَلِمَ بِمَوْضِعِهِ وَغَلَبَ فِي ظَنِّهِ, وَلَمْ يُوجِبُوهُ ذَلِكَ فِي مِيلٍ فَصَاعِدًا اجْتِهَادًا وَلِأَنَّ الْمِيلَ هُوَ الْحَدُّ الَّذِي تُقَدَّرُ بِهِ الْمَسَافَاتُ وَلَا تُقَدَّرُ بِأَقَلَّ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ, فَاعْتَبَرُوهُ فِي ذَلِكَ دُونَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ, كَمَا قُلْنَا فِي اعْتِبَارِ أَبِي يُوسُفَ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ أَنَّهُ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ الَّتِي تُقَدَّرُ بِهَا الْمِسَاحَاتُ وَلَا تُقَدَّرُ فِي الْعَادَةِ بِأَقَلَّ مِنْهُ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ فِي السَّفَرِ مِنْ الْمَاءِ عَلَى غَلْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَلَا يَمِيلُ إلَيْهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّاعِي يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ مِيلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَتَحْضُرُهُ الصَّلَاةُ, أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: "لَا يَتَيَمَّمُ مَنْ رَجَا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَاءِ فِي الوقت".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute