للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَهْلِ اللُّغَةِ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ; قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ جَمِيعًا, وَقَالُوا: إنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "رَأَيْت زَيْدًا وَعَمْرًا" بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "رَأَيْت الزَّيْدَيْنِ وَرَأَيْتهمَا" وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عَادَةِ أَهْلِ اللَّفْظِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: "رَأَيْت زَيْدًا وَعَمْرًا" لَمْ يَعْتَقِدْ فِي خَبَرِهِ أَنَّهُ رَأَى زَيْدًا قَبْلَ عَمْرٍو, بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا مَعًا, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رَأَى عَمْرًا قَبْلَ زَيْدٍ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ "الْوَاوَ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ. وَقَدْ أَجْمَعُوا جَمِيعًا أَيْضًا فِي رَجُلٍ لَوْ قَالَ: "إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ وَعَلَيَّ صَدَقَةٌ" أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الدَّارَ لَزِمَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, لَا يَلْزَمُهُ أَحَدُهَا قَبْلَ الْآخَرِ; كَذَلِكَ هَذَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْت" فَلَوْ كَانَتْ "الْوَاوُ" تُوجِبُ التَّرْتِيبَ لَجَرَتْ مَجْرَى "ثُمَّ" وَلَمَا فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ إيجَابُ التَّرْتِيبِ فَمُوجِبُهُ فِي الطَّهَارَةِ مُخَالِفٌ لَهَا وَزَائِدٌ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا, وَذَلِكَ يُوجِبُ نَسْخَ الْآيَةِ عِنْدَنَا لِحَظْرِهِ مَا أَبَاحَتْهُ; وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَسْخٌ, فَثَبَتَ جَوَازُ فِعْلِهِ غَيْرَ مُرَتَّبٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ: قَوْله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الرِّجْلَ مَغْسُولَةٌ مَعْطُوفَةٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْأَيْدِي, وَأَنَّ تَقْدِيرَهَا: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ تَرْتِيبَ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ تَرْتِيبُ الْمَعْنَى. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فِي نَسَقِهَا: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَهَذَا الْفَصْلُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى سُقُوطِ التَّرْتِيبِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُهُ الْحَرَجَ, وَهُوَ الضِّيقُ فِيمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ, وَفِي إيجَابِ التَّرْتِيبِ إثْبَاتٌ لِلْحَرَجِ وَنَفْيُ التَّوْسِعَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّ مُرَادَهُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ, وَوُجُودُ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ التَّرْتِيبِ كَهُوَ مَعَ وُجُودِهِ; إذْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى الْغَسْلَ.

فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: نَحْنُ نُسَلِّمُ لَك أَنَّ "الْوَاوَ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ, وَلَكِنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ إيجَابَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ, وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ, فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} لَزِمَ بِحُكْمِ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَلِي حَالَ الْقِيَامِ إلَيْهَا غَسْلَ الْوَجْهِ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ, فَلَزِمَ بِهِ تَقْدِيمُ غَسْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ, وَإِذَا لَزِمَ التَّرْتِيبُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ لَزِمَ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَقْتَضِي إيجَابَ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ جَعَلَهُ شَرْطًا فِيهِ فَأَطْلَقَ ذِكْرَ الْقِيَامِ وَأَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ, فَفِيهِ ضَمِيرٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ; وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ; إذْ كَانَ مَجَازًا; فَإِذًا لَا يَصِحُّ إيجَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ مُرَتَّبًا عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ لِأَجْلِ إدْخَالِ الْفَاءِ عَلَيْهِ; إذ

<<  <  ج: ص:  >  >>