الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: يَوْماً وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهو له إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا أَيْ/ وَكَيْفَ لَكُمْ بِالتَّقْوَى فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا وَالثَّالِثُ: أَنْ ينتصب بكفرتم عَلَى تَأْوِيلِ جَحَدْتُمْ، أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ اللَّهَ وَتَخْشَوْنَهُ إِنْ جَحَدْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْجَزَاءَ لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا خَوْفَ عِقَابِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَثَلٌ فِي الشِّدَّةِ يُقَالُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ: يَوْمَ يَشِيبُ نَوَاصِي الْأَطْفَالِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْهُمُومَ وَالْأَحْزَانَ، إِذَا تَفَاقَمَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَسْرَعَ فِيهِ الشَّيْبُ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْهُمُومِ تُوجِبُ انْقِصَارَ الرُّوحِ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ الِانْقِصَارُ يُوجِبُ انْطِفَاءَ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَانْطِفَاءُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَضَعْفُهَا، يُوجِبُ بَقَاءَ الْأَجْزَاءِ الْغِذَائِيَّةِ غَيْرَ تَامَّةِ النُّضْجِ وَذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِيلَاءَ الْبَلْغَمِ عَلَى الْأَخْلَاطِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ ابْيِضَاضَ الشَّعَرِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ حُصُولَ الشَّيْبِ مِنْ لَوَازِمِ كَثْرَةِ الْهُمُومِ، جَعَلُوا الشَّيْبَ كِنَايَةً عَنِ الشَّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَوْلَ ذلك اليوم يجعل الوالدان شِيبًا حَقِيقَةً، لِأَنَّ إِيصَالَ الْأَلَمِ وَالْخَوْفِ إِلَى الصِّبْيَانِ غَيْرُ جَائِزٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالطُّولِ، وَأَنَّ الْأَطْفَالَ يَبْلُغُونَ فِيهِ أَوَانَ الشَّيْخُوخَةِ وَالشَّيْبِ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْأُدَبَاءِ عَنْ قَوْلِ الْمَعَرِّي:
وَظُلْمٌ يَمْلَأُ الْفَوْدَيْنِ شِيبًا «١»
وَقَالَ: كَيْفَ يُفَضَّلُ هَذَا التَّشْبِيهُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى بَيْتِ الْمَعَرِّي؟ فَقُلْتُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ لَيْسَ بِعَجَبٍ، أَمَّا صَيْرُورَةُ الْوِلْدَانِ شِيبًا فَهُوَ عَجِيبٌ كَأَنَّ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْقُلُهُمْ مِنْ سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُرُّوا فِيمَا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بِسَنِّ الشَّبَابِ، وَهَذَا هُوَ الْمُبَالَغَةُ الْعَظِيمَةُ فِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ مَعْنَاهُ ابْيِضَاضُ الشَّعْرِ، وَقَدْ يَبْيَضُّ الشَّعْرُ لِعِلَّةٍ مَعَ أَنَّ قُوَّةَ الشَّبَابِ تَكُونُ بَاقِيَةً فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صَيْرُورَةِ الْوِلْدَانِ شُيُوخًا فِي الضَّعْفِ وَالنَّحَافَةِ وَعَدَمِ طَرَاوَةِ الْوَجْهِ، وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ، لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ لِأَنَّ جَانِبَيِ الرَّأْسِ مَوْضِعٌ لِلرُّطُوبَاتِ الْكَثِيرَةِ الْبَلْغَمِيَّةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّ الشَّيْبَ إِنَّمَا يَحْدُثُ أَوَّلًا فِي الصُّدْغَيْنِ، وَبَعْدَهُ فِي سَائِرِ جَوَانِبِ الرَّأْسِ، فَحُصُولُ الشَّيْبِ فِي الْفَوْدَيْنِ لَيْسَ بِمُبَالَغَةٍ إِنَّمَا الْمُبَالَغَةُ هُوَ اسْتِيلَاءُ الشَّيْبِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ بَلْ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وَهَذَا وَصْفٌ لِلْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ أَيْضًا، وَأَنَّ السَّمَاءَ عَلَى عِظَمِهَا وَقُوَّتِهَا تَنْفَطِرُ فِيهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْخَلَائِقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: ١] وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: مُنْفَطِرَةٌ؟ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، إِنَّمَا قَالَ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ وَلَمْ يَقُلْ: مُنْفَطِرَةٌ لِأَنَّ مَجَازَهَا مَجَازُ السَّقْفِ، تَقُولُ: هَذَا سَمَاءُ الْبَيْتِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: السماء تؤنث وتذكر، وهي هاهنا في وجوه التذكير/ وأنشد شعرا:
(١) الرواية.وجنح يملأ الفودين شيبا ... ولكن يجعل الصحراء خالا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute