اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا خَتَمَ مَا اقْتَصَّهُ مِنْ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لِفَصَاحَتِهِ مُعْجِزٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ الْبَتَّةَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ كَأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقَصَصَ السَّبْعَ عَلَى مَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّعَلُّمِ وَالِاسْتِعْدَادِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَالْمُرَادُ بِالتَّنْزِيلِ الْمُنَزَّلُ، ثُمَّ قَدْ كَانَ يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْقَصَصِ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلًا مِنَ اللَّه تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا وَاسِطَةٍ فَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَالْبَاءُ في قوله:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ونَزَلَ بِهِ الرُّوحُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمَعْنَى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جَعَلَ اللَّه الرُّوحَ نَازِلًا بِهِ عَلى قَلْبِكَ أي [حفظكه و] «١» فَهَّمَكَ إِيَّاهُ وَأَثْبَتَهُ فِي قَلْبِكَ إِثْبَاتَ مَا لَا يُنْسَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ/ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: ٦] وَالرُّوحُ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَمَّاهُ رُوحًا مِنْ حَيْثُ خُلِقَ مِنَ الرُّوحِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ نَجَاةُ الْخَلْقِ فِي بَابِ الدِّينِ فَهُوَ كَالرُّوحِ الَّذِي تَثْبُتُ مَعَهُ الْحَيَاةُ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ رُوحٌ كُلُّهُ لَا كَالنَّاسِ الَّذِينَ فِي أَبْدَانِهِمْ رُوحٌ وَسَمَّاهُ أَمِينًا لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَإِلَى غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلى قَلْبِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: عَلى قَلْبِكَ وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ لِيُؤَكِّدَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُنَزَّلَ مَحْفُوظٌ لِلرَّسُولِ مُتَمَكِّنٌ فِي قَلْبِهِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ فَيُوثَقُ بِالْإِنْذَارِ الْوَاقِعِ مِنْهُ الَّذِي بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَلِذَلِكَ قَالَ: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ الثَّانِي: أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْمُخَاطَبُ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ التمييز والاختبار، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ فَمُسَخَّرَةٌ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ إِحْدَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٧] : فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ وقال هاهنا: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ وَقَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: ٣٧] ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجَزَاءِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ مِنَ الْمَسَاعِي فَقَالَ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٥] وَقَالَ: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الْحَجِّ: ٣٧] وَالتَّقْوَى فِي الْقَلْبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الْحُجُرَاتِ: ٣] وَقَالَ تَعَالَى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [الْعَادِيَاتِ: ١٠] . وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ النَّارِ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الْمُلْكِ: ١٠] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ وَالسَّمْعَ مُنْفِذٌ إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاءِ: ٣٦] وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُمَا إِلَّا مَا يُؤَدِّيَانِهِ إِلَى الْقَلْبِ، فَكَانَ السُّؤَالُ عَنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ سُؤَالًا عَنِ الْقَلْبِ وَقَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غَافِرٍ:
١٩] ، وَلَمْ تُخْفِ «٢» الْأَعْيُنُ إِلَّا بِمَا تُضْمِرُ الْقُلُوبُ عِنْدَ التَّحْدِيقِ بِهَا وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السَّجْدَةِ: ٩] فَخَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِإِلْزَامِ الحجة مِنْهَا وَاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَقَدْ قُلْنَا لَا طَائِلَ فِي السَّمْعِ وَالْأَبْصَارَ إِلَّا بِمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَى الْقَلْبِ لِيَكُونَ الْقَلْبُ هُوَ الْقَاضِيَ فِيهِ والمتحكم
(١) زيادة من الكشاف ٣/ ١٢٨ ط. دار الفكر.(٢) مقتضى الكلام أن يقول ولم تخن الأعين لأن القلوب هي التي تخفي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute