وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ أَوْ مُحَلَّقُ «١»
وَيُقَالُ لِلْحَالِقِ اسْحَتْ: أَيْ اسْتَأْصِلْ وَسُمِّيَ الْحَرَامُ سُحْتًا لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الطَّاعَاتَ: أَيْ يُذْهِبُهَا وَيَسْتَأْصِلُهَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ كَلْبُ الْجُوعِ وَقِيلَ هُوَ الرَّشْوَةُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالرَّشْوَةُ تَدْخُلُ فِي الْحَرَامِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَقَدْ فَسَّرَهُ جَمَاعَةٌ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَرَامِ خَاصٌّ كَالْهَدِيَّةِ لِمَنْ يَقْضِي لَهُ حَاجَةً، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَالتَّعْمِيمُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ. قَوْلُهُ: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فِيهِ تَخْيِيرٌ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حُكَّامَ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْهِمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا تَرَافَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّخْيِيرِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْوُجُوبِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «٢» وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عبد العزيز والسديّ، وهو الصحيح من قولي الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. قَوْلُهُ: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً
أَيْ إِنِ اخْتَرْتَ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْكَ، لِأَنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنِ اخْتَرْتَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَأَنْزَلَهُ عَلَيْكَ. قَوْلُهُ: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ تَعْجِيبٌ لَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ تَحْكِيمِهِمْ إِيَّاهُ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا بِمَا جَاءَ بِهِ، مَعَ أَنَّ مَا يُحَكِّمُونَهُ فِيهِ هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ كَالرَّجْمِ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يَأْتُونَ إِلَيْهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيُحَكِّمُونَهُ طَمَعًا مِنْهُمْ فِي أَنْ يُوَافِقَ تَحْرِيفَهُمْ وَمَا صَنَعُوهُ بِالتَّوْرَاةِ مِنَ التَّغْيِيرِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عَطْفٌ عَلَى يُحَكِّمُونَكَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ تَحْكِيمِهِمْ لَكَ، وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ اسْتِئْنَافٌ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ التَّوْرَاةِ وَتَفْخِيمَ شَأْنِهَا وَأَنَّ فِيهَا الْهُدَى وَالنُّورَ، وَهُوَ بَيَانُ الشَّرَائِعِ والتبشير بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَإِيجَابُ اتِّبَاعِهِ. قَوْلُهُ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ هُمْ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ أو حالية، والَّذِينَ أَسْلَمُوا صِفَةٌ مَادِحَةٌ لِلنَّبِيِّينَ، وَفِيهِ إِرْغَامٌ لِلْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ كَانُوا يَدِينُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي دَانَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا. قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ هادُوا متعلّق بيحكم. وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ لِلَّذِينِ هَادُوا وعليهم. وَالرَّبَّانِيُّونَ: الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، وَالْأَحْبَارُ:
الْعُلَمَاءُ، مَأْخُوذٌ مِنَ التَّحْبِيرِ وَهُوَ التَّحْسِينُ فَهُمْ يَحْبُرُونَ الْعِلْمَ أَيْ يُحْسِنُونَهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَبْرُ وَاحِدُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بِالْكَسْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ بِالْفَتْحِ. قَوْلُهُ:
بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ الباء للسببية، واستحفظوا أُمِرُوا بِالْحِفْظِ أَيْ أَمَرَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِحِفْظِ التَّوْرَاةِ
(١) . في لسان العرب مادة «سحت» : مجلّف. الذي بقيت منه بقية.(٢) . المائدة: ٤٩.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute