شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ كَيْ يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ» . وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي وَاقِدٍ وَأَبِي مُوسَى.
قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَعْنَى فَقِيلَ: أَرَادَ هَابِيلُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِالْإِثْمِ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُنِي لَوْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِكَ، وَبِإِثْمِكَ الَّذِي تَحَمَّلْتَهُ بِسَبَبِ قَتْلِي وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِإِثْمِي الَّذِي يَخْتَصُّ بِي بِسَبَبٍ سَيَأْتِي فَيُطْرَحُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لِي وَتَبُوءَ بِإِثْمِكَ فِي قَتْلِي. وَهَذَا يُوَافِقُ مَعْنَاهُ مَعْنَى مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ:
«يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ فَتُزَادُ فِي حَسَنَاتِ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِفَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ» ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «١» وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ لَا تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «٢» أَيْ أَنْ لَا تَمِيدَ بِكُمْ. وَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «٣» أَيْ أَنْ لَا تَضِلُّوا. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعْنَى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي أَيْ بِإِثْمِ قَتْلِكَ لِي وَإِثْمِكَ الَّذِي قَدْ صَارَ عَلَيْكَ بِذُنُوبِكَ مِنْ قَبْلِ قَتْلِي. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ: أَيْ أَوْ إِنِّي أُرِيدُ، عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ»
أَيْ أَوْ تِلْكَ نِعْمَةٌ. قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَوَجْهُهُ بِأَنَّ إِرَادَةَ الْقَتْلِ مَعْصِيَةٌ. وَسُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كِيسَانَ: كَيْفَ يُرِيدُ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَأْثَمَ أَخُوهُ وَأَنْ يَدْخُلَ النَّارَ؟ فَقَالَ: وَقَعَتِ الْإِرَادَةُ بعد ما بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَأَصْلُ بَاءَ: رَجَعَ إِلَى المباءة، وهي المنزل وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «٥» أَيْ رَجَعُوا. قَوْلُهُ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أَيْ سَهَّلَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَشَجَّعَتْهُ وَصَوَّرَتْ لَهُ أَنَّ قَتْلَ أَخِيهِ طَوْعَ يَدِهِ سَهْلٌ عَلَيْهِ، يُقَالُ: تَطَوَّعَ الشَّيْءُ: أَيْ سَهُلَ وَانْقَادَ وَطَوَّعَهُ فُلَانٌ لَهُ: أَيْ سَهَّلَهُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: طَوَّعَتْ وَطَاوَعَتْ وَاحِدٌ، يُقَالُ: طَاعَ لَهُ كَذَا: إِذَا أَتَاهُ طَوْعًا، وَفِي ذِكْرِ تَطْوِيعِ نفسه له بعد ما تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ قَابِيلَ لَأَقْتُلَنَّكَ وَقَوْلِ هَابِيلَ لِتَقْتُلَنِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّطْوِيعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ لَهُ عِنْدَ تِلْكَ الْمُقَاوَلَةِ. قَوْلُهُ: فَقَتَلَهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا:
رُوِيَ أَنَّهُ جَهِلَ كَيْفَ يَقْتُلُ أَخَاهُ فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ بِطَائِرٍ أَوْ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ، فَجَعَلَ يَشْدَخُ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ قَابِيلَ فَفَعَلَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحِ الرِّوَايَةِ. قَوْلُهُ: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُوَارِيهِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَيِّتٍ مَاتَ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَحَفَرَ لَهُ، ثُمَّ حَثَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رآه قابيل قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَوَارَاهُ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي لِيُرِيَهُ للغراب وقيل لله سبحانه، وكَيْفَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُوارِي وَالْجُمْلَةُ ثَانِي مَفْعُولَيْ يُرِيَهُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّوْءَةِ هنا ذاته كلها لكونها ميتة، وقالَ اسْتِئْنَافُ جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ مِنْ سَوْقِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ عِنْدَ أَنْ شَاهَدَ الغراب يفعل ذلك؟ ويا وَيْلَتى كلمة تحسّر وتحزّن،
(١) . العنكبوت: ١٣.(٢) . النحل: ١٥. [.....](٣) . النساء: ١٧٦.(٤) . الشعراء: ٢٢.(٥) . آل عمران: ١١٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute