أَيْ: مَا أَرَدْنَا بِتَحَاكُمِنَا إِلَى غَيْرِكَ إِلَّا الْإِحْسَانَ لَا الْإِسَاءَةَ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لَا الْمُخَالَفَةَ لَكَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَعْنَاهُ: مَا أَرَدْنَا إِلَّا عَدْلًا وَحَقًّا، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى «١» فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالْعَدَاوَةِ لِلْحَقِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَعْنَاهُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ: عَنْ عِقَابِهِمْ، وَقِيلَ: عَنْ قَبُولِ اعْتِذَارِهِمْ وَعِظْهُمْ أَيْ: خَوِّفْهُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ:
قُلْ لَهُمْ خَالِيًا بِهِمْ لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ قَوْلًا بَلِيغاً أَيْ: بَالِغًا فِي وَعْظِهِمْ إِلَى الْمَقْصُودِ، مُؤَثِّرًا فِيهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَوَعَّدَهُمْ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ، وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ، وَسَلْبِ أَمْوَالِهِمْ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ مِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ إِلَّا لِيُطاعَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ بِعِلْمِهِ، وَقِيلَ: بِتَوْفِيقِهِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ طَاعَتِكَ والتحاكم إلى غيرك جاؤُكَ مُتَوَسِّلِينَ إِلَيْكَ، مُتَنَصِّلِينَ عَنْ جِنَايَاتِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لِذُنُوبِهِمْ، وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ حَتَّى قُمْتَ شَفِيعًا لَهُمْ فَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ:
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ لِشَأْنِ الرسول صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أَيْ: كَثِيرَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ. قَوْلُهُ: فَلا وَرَبِّكَ قال ابن جرير: فَلا رَدٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ، تَقْدِيرُهُ: فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ بِقَوْلِهِ: وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدَّمَ «لَا» عَلَى الْقَسَمِ اهْتِمَامًا بِالنَّفْيِ، وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِ، ثُمَّ كَرَّرَهُ بَعْدَ الْقَسَمِ تَأْكِيدًا وَقِيلَ: لَا: مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ لَا لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَوَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «٢» حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي: يجعلوك حَكَمًا بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، لَا يُحَكِّمُونَ أَحَدًا غَيْرَكَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْكَ، وَلَا مُلْجِئَ لِذَلِكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أَيِ: اخْتَلَفَ بَيْنَهُمْ وَاخْتَلَطَ، وَمِنْهُ: الشَّجَرُ لِاخْتِلَافِ أَغْصَانِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طُرْفَةَ:
وَهُمُ الْحُكَّامُ أَرْبَابُ الْهُدَى ... وَسُعَاةُ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ الشَّجَرْ
أَيِ: الْمُخْتَلِفِ، وَمِنْهُ: تَشَاجُرُ الرِّمَاحِ، أَيْ: اخْتِلَافُهَا ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَنْسَاقُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: فَتَقْضِيَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا. وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ: وَقِيلَ:
الشَّكُّ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ: حَرَجٌ، وَحَرِجَةٌ، وَجَمْعُهَا: حِرَاجٌ وَقِيلَ: الْحَرَجُ: الْإِثْمُ، أَيْ: لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إِثْمًا بِإِنْكَارِهِمْ مَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أَيْ: يَنْقَادُوا لِأَمْرِكَ وَقَضَائِكَ انْقِيَادًا لَا يُخَالِفُونَهُ فِي شَيْءٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَسْلِيماً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيْ: وَيُسَلَّمُونَ لِحُكْمِكَ تَسْلِيمًا لَا يُدْخِلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَكًّا وَلَا شُبْهَةً فِيهِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ فَرْدٍ من كُلِّ حُكْمٍ، كَمَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ فلا يختص بالمقصودين بقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وهذا في حياته صلّى الله عليه وسلم، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ: فَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَحْكِيمُ الْحَاكِمِ بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ إِذَا كَانَ لَا يَحْكُمُ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وَكَانَ يَعْقِلُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ حُجَجِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وما يتعلق بها: من نحو، وتصريف،
(١) . التوبة: ١٠٧.(٢) . الواقعة: ٧٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute