بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ مَا خَلَقْتَ هَذَا عَبَثًا وَلَهْوًا، بَلْ خَلَقْتَهُ دَلِيلًا عَلَى حِكْمَتِكَ وَقُدْرَتِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ «١»
.......
وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: خَلْقًا بَاطِلًا وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَقِيلَ:
هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَخَلَقَ: بِمَعْنَى جَعَلَ، أَوْ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، والإشارة بقوله: هذا إلى السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ إِلَى الْخَلْقِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ خَلْقُكَ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بَاطِلًا. وَقَوْلُهُ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الدعاء على ما قبله. وقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنِ اسْتِدْعَاءِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَبَيَانٌ لِلسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ دَعَاهُ عِبَادُهُ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَاهُ، أَيْ: أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَى أَخْزَيْتَهُ: أَهْلَكْتَهُ، وَأَنْشَدَ:
أَخْزَى الْإِلَهُ بَنِي الصَّلِيبِ عُنَيْزَةً «٢» ... وَاللَّابِسِينَ مَلَابِسَ الرُّهْبَانِ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فَضَحْتَهُ وَأَبْعَدْتَهُ، يُقَالُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ: أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ، وَالِاسْمُ: الْخِزْيُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
خَزَى، يَخْزِي، خِزْيًا: إِذَا وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ. قَوْلُهُ: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ الْمُنَادِي عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَوْقَعَ السَّمَاعَ عَلَى الْمُنَادِي مَعَ كَوْنِ الْمَسْمُوعِ هُوَ النِّدَاءُ:
لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ الْمُنَادِيَ بِمَا يُسْمَعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ «يُنَادِي» هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَذَكَرَ يُنَادِي مَعَ أَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مُنادِياً لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِ هَذَا الْمُنَادَى بِهِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْإِيمانِ: بِمَعْنَى إِلَى وَقِيلَ: إِنَّ يُنَادِي يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَبِإِلَى، يُقَالُ يُنَادِي لِكَذَا وَيُنَادِي إِلَى كَذَا، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ: لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ: أَنْ آمِنُوا هِيَ:
إِمَّا تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا: بِأَنْ آمِنُوا، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ. قَوْلُهُ: فَآمَنَّا أَيِ: امْتَثَلْنَا مَا يَأْمُرُ بِهِ هَذَا الْمُنَادِي مِنَ الْإِيمَانِ فَآمَنَّا، وَتَكْرِيرُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لِإِظْهَارِ التَّضَرُّعِ وَالْخُضُوعِ قِيلَ:
الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ هُنَا: الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ. وَالظَّاهِرُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْآخَرِ بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَاحِدًا، وَالتَّكْرِيرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْغَفْرِ وَالْكُفْرِ: السَّتْرُ. وَالْأَبْرَارُ: جَمْعُ بَارٍّ أَوْ بَرٍّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ، فَكَأَنَّ الْبَارَّ مُتَّسِعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَّسِعَةٌ لَهُ رَحْمَتُهُ، قِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ هَذَا دُعَاءٌ آخَرُ وَالنُّكْتَةُ فِي تَكْرِيرِ النِّدَاءِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَوْعُودُ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ هُوَ الثَّوَابُ الَّذِي وعد الله به
(١) . وعجزه: وكلّ نعيم لا محالة زائل.
(٢) . في القرطبي (٤/ ٣١٦) : أخرى الإله من الصّليب عبيده ...