وَالْأَرْضِ
«١» وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إلى أنها تقرن السموات وَالْأَرْضَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ كَمَا تُبْسَطُ الثِّيَابُ وَيُوَصَلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَذَلِكَ عَرْضُ الْجَنَّةِ، وَنَبَّهَ بِالْعَرْضِ عَلَى الطُّولِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الطُّولَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الْعَرْضِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَاءَ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الاستعارة دون الحقيقة، وذلك أنها لمّا كَانَتِ الْجَنَّةُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَالِانْفِسَاحِ فِي غَايَةٍ قصوى، حسن التعبير عنها بعرض السموات وَالْأَرْضِ مُبَالَغَةً، لِأَنَّهُمَا أَوْسَعُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَعْلَمُهُ عِبَادُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ التَّحْدِيدَ. وَالسَّرَّاءُ: الْيُسْرُ، وَالضَّرَّاءُ: الْعُسْرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرَهُمَا. وَقِيلَ: السَّرَّاءُ: الرَّخَاءُ، وَالضَّرَّاءُ: الشِّدَّةُ، وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَقِيلَ: السَّرَّاءُ فِي الْحَيَاةِ، وَالضَّرَّاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَوْلُهُ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يُقَالُ: كَظَمَ غَيْظَهُ: أَيْ:
سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ، وَمِنْهُ كَظَمْتُ السِّقَاءَ: أَيْ: مَلَأْتُهُ. وَالْكِظَامَةُ: مَا يَسُدُّ بِهِ مَجْرَى الْمَاءِ، وَكَظَمَ الْبَعِيرُ جَرَّتَهُ «٢» : إِذَا رَدَّهَا فِي جَوْفِهِ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أَيِ: التَّارِكِينَ عُقُوبَةَ مَنْ أَذْنَبَ إِلَيْهِمْ وَاسْتَحَقَّ الْمُؤَاخَذَةَ، وَذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ ضُرُوبِ الْخَيْرِ. وَظَاهِرُهُ الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْمَمَالِيكِ أَمْ لَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِهِمُ: الْمَمَالِيكُ. وَاللَّامُ فِي الْمُحْسِنِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مُحْسِنٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، فَيَخْتَصُّ بِهَؤُلَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى اعْتِبَارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السِّيَاقِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مُسَمَّى الْإِحْسَانِ، أَيَّ إِحْسَانٍ كَانَ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً هَذَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: أُولئِكَ وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهَؤُلَاءِ هُمْ صِنْفٌ دُونَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ مُلْحَقِينَ بِهِمْ، وَهُمُ التَّوَّابُونَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَالْفَاحِشَةُ: وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِعْلَةٌ فَاحِشَةٌ، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَقَدْ كَثُرَ اخْتِصَاصُهَا بِالزِّنَا. وَقَوْلُهُ: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ: بِاقْتِرَافِ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَقِيلَ: أَوْ: بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَالْمُرَادُ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ: الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ذَكَرُوا اللَّهَ أَيْ:
بِأَلْسِنَتِهِمْ، أَوْ أَخْطَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ، أَوْ ذَكَرُوا وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أَيْ: طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ لَهَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَفْسِيرُهُ: بِالتَّوْبَةِ، خِلَافُ مَعْنَاهُ لُغَةً، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْإِنْكَارِ- مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدَّلَالَةِ- عَلَى أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ سُبْحَانَهُ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ: لَا يَغْفِرُ جِنْسَ الذُّنُوبِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَتَنْشِيطٌ لِلْمُذْنِبِينَ أَنْ يَقِفُوا فِي مَوَاقِفِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا عَطْفٌ عَلَى: فَاسْتَغْفَرُوا، أَيْ: لَمْ يُقِيمُوا عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِصْرَارِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْعَزْمُ عَلَى مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: لَمْ يُصِرُّوا عَلَى فِعْلِهِمْ عَالِمِينَ بِقُبْحِهِ. قَوْلُهُ: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً. وَقَوْلُهُ: جَزاؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنِ اسم الإشارة. وقوله: مَغْفِرَةٌ خبر ومِنْ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لِمَغْفِرَةٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص
(١) . الجرّة: ما يخرجه البعير ونحوه من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.(٢) . الحديد: ٢١. [.....]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute