قَلِيلًا: عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَمْتِيعًا قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أَيْ: نُلْجِئُهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ. فَإِنَّهُ لَا أَثْقَلَ مِنْهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِيهِ، وَأُصِيبَ بِهِ، فَلِهَذَا اسْتُعِيرَ لَهُ الْغِلَظُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أَيْ: يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ خَالِقِ ذَلِكَ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِيهِ عندهم. وهذا اعتراف منهم مما يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَلِهَذَا قَالَ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى اعْتِرَافِكُمْ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَتَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ؟ أَوِ الْمَعْنَى: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا لَهُ مِنْ دِينِهِ وَلَا حَمْدَ لِغَيْرِهِ ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: لَا يَنْظُرُونَ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ خَالِقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الَّذِي تَجِبُ لَهُ الْعِبَادَةُ دُونَ غَيْرِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُلْكًا، وَخَلْقًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ غَيْرِهِ الْحَمِيدُ أَيِ:
الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ، أَوِ الْمَحْمُودُ مِنْ عِبَادِهِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ، أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سبحانه أن له ما في السموات والأرض أتبعه بما يدلّ على أنه لَهُ وَرَاءَ ذَلِكَ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ عَدَدٌ، وَلَا يُحْصَرُ بِحَدٍّ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أَيْ: لَوْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الشَّجَرِ: أَقْلَامٌ، وَوَحَّدَ الشَّجَرَةَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كل شجرة أقلام حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ جِنْسِ الشَّجَرِ وَاحِدَةٌ إِلَّا وَقَدْ بُرِيَتْ أَقْلَامًا، وَجَمَعَ الْأَقْلَامَ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ، أَيْ: لَوْ أَنْ يَعُدَّ كُلَّ شَجَرَةٍ مِنَ الشَّجَرِ أَقْلَامًا، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهُوَ مِنْ وُقُوعِ الْمُفْرَدِ مَوْقِعَ الْجَمْعِ، وَالنَّكِرَةِ مَوْقِعَ المعرفة، كقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «١» ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانُهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أي: يمدّه من بعد نفاذه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالْبَحْرُ» بِالرَّفْعِ: عَلَى أنه مبتدأ، ويمدّه: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الْبَحْرَ الْمُحِيطَ مَعَ سِعَتِهِ يَمُدُّهُ السَّبْعَةُ الْأَبْحُرِ مَدًّا لَا يَنْقَطِعُ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْبَحْرَ مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ ثَبَتَ الْبَحْرُ حَالَ كَوْنِهِ تَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَقِيلَ: هُوَ مُرْتَفِعٌ بِالْعَطْفِ عَلَى أَنَّ وَمَا فِي حَيِّزِهَا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْبَحْرَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ أَنَّ، أَوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ يَمُدُّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَالْحَسَنُ «يُمِدُّهُ» بضم حرف المضارعة، وكسر الميم، ومن أَمَدَّ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْبَحْرُ «مِدَادُهُ» وَجَوَابُ لَوْ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أَيْ: كَلِمَاتُهُ الَّتِي هِيَ: عِبَارَةٌ عَنْ مَعْلُومَاتِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا فِي الْمَقْدُورِ دُونَ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْوُجُودِ، وَوَافَقَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْأَشْجَارَ لَوْ كَانَتْ أَقْلَامًا، وَالْبِحَارَ مِدَادًا، فَكُتِبَ بِهَا عَجَائِبُ صُنْعِ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَتِهِ، ووحدانيته لم تنفد تِلْكَ الْعَجَائِبُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: رَدَّ الْقَفَّالُ مَعْنَى الْكَلِمَاتِ إِلَى الْمُقَدُورَاتِ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ: أَوْلَى.
قَالَ النَّحَّاسُ: قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلِمَاتِ هَاهُنَا: يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ، وَحَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخلق ما هو خالق في السموات وَالْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، وَعَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ، وَعَلِمَ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ شَعْرَةٍ، وَعُضْوٍ وَمَا فِي الشَّجَرَةِ مِنْ وَرَقَةٍ، وَمَا فِيهَا مِنْ ضُرُوبِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ:
مَا أَكْثَرَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «٢»
(١) . البقرة: ١٠٦.(٢) . الإسراء: ٨٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute