أَيْ قَائِمَةً سَاكِنَةً، وَجُمْلَةُ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: وَهِيَ تَسِيرُ سَيْرًا حَثِيثًا كَسَيْرِ السَّحَابِ الَّتِي تسيرها الرياح. قال القتبي: وَذَلِكَ أَنَّ الْجِبَالَ تُجْمَعُ، وَتُسَيَّرُ وَهِيَ فِي رُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَالْقَائِمَةِ وَهِيَ تَسِيرُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً «١» قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ تَحْسَبُهَا بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ انْتِصَابُ صُنْعَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَغَيْرِهِمَا، أَيْ: صَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ صُنْعًا، وقيل: هو مصدر مؤكد لقوله:
«يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: انْظُرُوا صُنْعَ اللَّهِ، وَمَعْنَى «الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» الَّذِي أَحْكَمَهُ، يُقَالُ رَجُلٌ تِقْنٌ: أَيْ حَاذِقٌ بِالْأَشْيَاءِ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ صَنَعَ مَا صَنَعَ، وَأَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. وَالْخَبِيرُ: الْمُطَّلِعُ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالضَّمَائِرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، أَيْ: مَنْ جَاءَ بِجِنْسِ الْحَسَنَةِ فَلَهُ مِنَ الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْهَا، أَيْ: أَفْضَلُ مِنْهَا وَأَكْثَرُ، وَقِيلَ: خَيْرٌ حَاصِلٌ مِنْ جِهَتِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ هُنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ:
هِيَ الْإِخْلَاصُ، وَقِيلَ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَالتَّعْمِيمُ أَوْلَى، وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ.
قِيلَ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: «إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ» وَقِيلَ: بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: «وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ» . قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ بِالتَّنْوِينِ وَفَتْحِ مِيمِ يَوْمَئِذٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِفَتْحِهَا مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى يَوْمَئِذٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا أَعْجَبُ إِلَيَّ لِأَنَّهُ أَعَمُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: الْأَمْنُ مِنْ فَزَعِ جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَعَ التَّنْوِينِ يَكُونُ الْأَمْنُ مِنْ فَزَعٍ دُونَ فَزَعٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ، فَلَا يَتِمُّ التَّرْجِيحُ بِمَا ذَكَرَ، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ هَاهُنَا هُوَ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الْمَذْكُورُ في قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «٢» ، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ نَافِعٍ أَنَّهُ نَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظرفية، لكونه الْإِعْرَابِ فِيهِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، وَلَمَّا كَانَتْ إِضَافَةُ الْفَزَعِ إِلَى ظَرْفٍ غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ بُنِيَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ كَلَامٌ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، حَتَّى قِيلَ:
إِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ هُنَا الشِّرْكُ، وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ: «فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» فَهَذَا الْجَزَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمِثْلِ سَيِّئَةِ الشِّرْكِ، وَمَعْنَى «فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» أَنَّهُمْ كُبُّوا فِيهَا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَأُلْقُوا فِيهَا وَطُرِحُوا عَلَيْهَا، يُقَالُ كَبَبْتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَلْقَيْتَهُ لِوَجْهِهِ فَانْكَبَّ وَأَكَبَّ، وَجُمْلَةُ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ: أَيْ يُقَالُ ذَلِكَ، وَالْقَائِلُ: خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، أَيْ: مَا تُجْزَوْنَ إِلَّا جَزَاءَ عَمَلِكُمْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بيان أحوال المبدأ والمعاد أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَخُصَّ اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمُرَادُ بالبلدة: مكة، وإنما خصّها من سَائِرِ الْبِلَادِ لِكَوْنِ فِيهَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَلِكَوْنِهَا أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَى رَسُولِهِ، وَالْمَوْصُولُ: صِفَةٌ للربّ، وهكذا قرأ الجمهور. قرأ ابن عباس وابن مسعود التي حرّمها
(١) . النبأ: ٢٠.(٢) . الأنبياء: ١٠٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute