إِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ اقْتَسَمُوا كِتَابَ اللَّهِ، فَجَعَلُوا بَعْضَهُ شِعْرًا، وَبَعْضَهُ سِحْرًا، وَبَعْضَهُ كَهَانَةً، وَبَعْضَهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَسِمُونَ الْقُرْآنَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ هَذِهِ السُّورَةُ لِي وَهَذِهِ لَكَ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَسَّمُوا كِتَابَهُمْ وَفَرَّقُوهُ وَبَدَّدُوهُ وَحَرَّفُوهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ قَوْمُ صَالِحٍ تَقَاسَمُوا عَلَى قَتْلِهِ قسموا مُقْتَسِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ «١» ، وَقِيلَ: تَقَاسَمُوا أَيْمَانًا تَحَالَفُوا عَلَيْهَا، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمُنَبِّهُ بْنُ الْحَجَّاجِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جَمْعُ عِضَةٍ، وَأَصْلُهَا عِضْوَةٌ فِعْلَةٌ مِنْ عَضَى الشَّاةَ إِذَا جَعَلَهَا أَجْزَاءً، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً، بَعْضُهُ شِعْرٌ، وَبَعْضُهُ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُ كَهَانَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وقيل:
هو مأخوذ من عضهه إِذَا بَهَتَّهُ، فَالْمَحْذُوفُ مِنْهُ الْهَاءُ لَا الْوَاوُ، وَجُمِعَتِ الْعِضَةُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمْعُ الْعُقَلَاءِ لِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ عِوَضًا عَمَّا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ وَقِيلَ: مَعْنَى عِضِينَ: إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكُفْرُهُمْ بِبَعْضٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ مَعْنَى عِضِينَ التَّفْرِيقُ، قَوْلُ رُؤْبَةَ:
وَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ بِالْعِضِينَ «٢» أَيْ: بِالْمُفَرَّقِ، وَقِيلَ: الْعِضَةُ وَالْعِضِينُ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ السِّحْرُ وَهُمْ يَقُولُونَ لِلسَّاحِرِ عَاضِهٌ، وَلِلسَّاحِرَةِ عَاضِهَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَعُوذُ بربّي من النافثا ... ت في عقد العاضه المعضه
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْعَاضِهَةَ وَالْمُسْتَعْضِهَةَ، وَفُسِّرَ بِالسَّاحِرَةِ وَالْمُسْتَسْحِرَةِ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ أَكْثَرُوا الْبُهْتَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَسَمَّوْهُ سِحْرًا وَكَذِبًا وَأَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَنَظِيرُ عِضَةٍ فِي النُّقْصَانِ شَفَةٌ، وَالْأَصْلُ شَفْهَةٌ، وَكَذَلِكَ سَنَةٌ، وَالْأَصْلُ سَنْهَةٌ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعِضَةُ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ، وَجَمْعُهَا عِضُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ العضاء، وَهِيَ شَجَرٌ يُؤْذِي وَيَجْرَحُ كَالشَّوْكِ، وَيَجُوزُ أَنْ يراد بالقرآن التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ، ويراد بالمقتسمين هم الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَيْ: جَعَلُوهُمَا أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً، وَهُوَ أحد الأقوال المتقدّمة فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ: لَنَسْأَلَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ أَجْمَعِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ سُؤَالُهُمْ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْعُمُومُ فِي عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يُفِيدُ مَا هُوَ أوسع من ذلك وقيل: إن المسؤولين هَاهُنَا هُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْعُصَاةِ وَالْكُفَّارِ، وَيَدُلُّ عليه قوله: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «٣» ، وقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «٤» ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ- ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ «٥» ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَصْرَ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى الْمَذْكُورِينَ فِي السِّيَاقِ وَصَرْفَ الْعُمُومِ إِلَيْهِمْ لَا يُنَافِي سُؤَالَ غَيْرِهِمْ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قال الزجّاج: يقول أظهر ما
(١) . النمل: ٤٩.(٢) . في تفسير القرطبي (١٠/ ٥٩) : بالمعضّى.(٣) . التكاثر: ٨.(٤) . الصافات: ٢٤.(٥) . الغاشية: ٢٥ و ٢٦.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute